الشعر مرآة الروح وطبُّها الخفي

يشكّل الشعر واحدًا من أقدم أشكال التعبير الإنساني التي لجأ إليها البشر لفهم ذواتهم ولمداواة جراحهم العميقة إذ لا يقتصر دوره على الجماليات اللغوية بل يتجاوزها إلى كونه وسيلة تعبيرية تعيد ترتيب الألم داخل النفس. وتُشير دراسات في علم النفس الثقافي مثل ما نشرته جامعة كاليفورنيا إلى أن صياغة المشاعر في قالبٍ لغوي يساعد الدماغ على تخفيف حدّة التوتر عبر آليات مشابهة لتلك التي تُفَعَّل أثناء العلاج السلوكي. وهذا ما جعل الشعر يُعَدُّ في العديد من الثقافات ممارسة علاجية غير مباشرة تتكامل مع الأساليب النفسية التقليدية.
لقد كان الشعر منذ الجاهلية ملجأ للإنسان العربي في مواجهة القلق والاغتراب حيث كان الشاعر يستعيد توازنه عبر الوقوف على الأطلال واستحضار الذكريات لتصير القصيدة فعل تطهير داخلي. ويشير الباحث جورج طومسون في كتابه عن تطور الفنون إلى أنّ المجتمعات القديمة وظّفت الإيقاع الشعري بوصفه وسيلة لاستعادة الانسجام بين الإنسان والعالم. هذا البعد الإيقاعي ليس ترفًا بل عنصرًا يؤثر مباشرة في الجملة النفسية إذ تُظهر دراسات منشورة في مجلة Psychology Today أن الإيقاع المنتظم يساعد على خفض نبضات القلب وتهدئة الجهاز العصبي.
في العصر الحديث عاد الشعر ليحضر كمساحة آمنة للبوح خصوصًا مع انتشار الكتابة التعبيرية التي تدعمها أبحاث جامعة بنسلفانيا والتي تبيّن أن تدوين التجارب المؤلمة في نصوص قصيرة شعرية أو سردية يعزّز القدرة على المعالجة المعرفية ويقلل من الشعور بالعزلة. وهنا تبرز أهمية الشعر بوصفه عملية تركيب جديدة للألم لا محاولة لإخفائه فهو يمنح القارئ والشاعر معًا فرصة لإعادة سرد ما يصعب قوله مباشرة مما يجعله أداة علاجية لا واعية تتسرب إلى النفس وتعيد تشكيل علاقتها بذاتها.
كما أسهمت التجارب الشعرية العربية الحديثة في ترسيخ هذا الدور العلاجي إذ تحوّلت قصائد محمود درويش ونزار قباني إلى منافذ عاطفية لجمهور واسع وجد في لغتهما مساحة تفريغ تستوعب الفقد والحنين. ويشير الناقد إحسان عباس في دراساته إلى أن الشاعر حين يكتب عن ألمه يتيح للقارئ أن يستعير لغته لتسمية آلامه الخاصة فتتحقق عملية التعافي المشتركة القائمة على المشاركة الوجدانية.
إن الشعر بما يحمله من موسيقى داخلية وصور رمزية لا يؤدي دور المرآة فحسب بل دور الدواء أيضًا حيث يسمح للإنسان أن يرى جراحه بوضوح وأن يحوّلها إلى معنى. وبهذا يصبح الشعر ممارسة علاجية ثقافية تعبر الأزمنة وتبقى وفية لوظيفتها الأولى وهي شفاء الروح عبر الكلمة وإعادة بناء الداخل عبر الإبداع.
