تغير المناخ في لبنان: اضطراب النظم البيئية وارتفاع المخاطر الصحية

بات تغيّر المناخ اليوم أشبه بظل طويل يزحف فوق النظم البيئية في العالم، يبدل ملامحها ويعيد تشكيل توازناتها القديمة. ارتفاع درجات الحرارة، اضطراب الأمطار، فترات الجفاف الطويلة، والعواصف التي تأتي بلا مقدمات، كلها عوامل تربك دورة الحياة في الغابات والأنهار والبحار، وتضغط على النباتات والحيوانات التي اعتادت إيقاعًا ثابتًا عبر الزمن. ومع كل خلل في هذا الإيقاع، تتراجع بعض الأنواع وتهاجر أخرى، فتفقد النظم البيئية قدرتها على حماية نفسها من الانهيار والتلوث والتدهور.
في لبنان، بدأت هذه التحولات تظهر بوضوح لافت. المواسم باتت غير مستقرة، الشتاء يطل ثم ينقطع، والربيع يأتي مرة دافئًا ومرة باردًا، أما الأمطار فأصبحت تهطل على شكل موجات قصيرة وعنيفة بدل الامتداد التدريجي الذي كان يغذي التربة والأنهار. تراجع الثلوج في الجبال حرم البلاد من خزانها الطبيعي للمياه، وترك القرى الزراعية في مواجهة جفاف يشتد عامًا بعد عام. أما المناطق الساحلية فتعاني من تملح المياه الجوفية وتآكل الشواطئ وارتفاع حرارة البحر، ما يهدد الحياة البحرية والاستقرار الاقتصادي للسكان.
هذا الاضطراب المناخي لا يقتصر على الطبيعة فحسب، بل يمتد مباشرة إلى صحة الإنسان. فالحرارة المرتفعة والرطوبة تشكلان بيئة مثالية لتكاثر البعوض، ما يزيد احتمالات انتشار أمراض مثل حمى الضنك أو أمراض أخرى تنقلها الحشرات. ومع تقلب الطقس السريع، يزداد فساد الأطعمة، وتتعرض مصادر المياه للتلوث، فتتوسع الأمراض المعوية والبكتيرية. كما أن ارتفاع الحرارة يدعم نمو الفطريات التي تستهدف الجهاز التنفسي أو الجلد، وتظهر بشكل أكبر عند الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة. وعندما تحدث فيضانات مفاجئة، تختلط مياه الأمطار بمياه الصرف الصحي، فتشتد احتمالات انتشار الجراثيم والفيروسات.
ورغم هذا المشهد المقلق، تبقى وسائل الوقاية ممكنة وفعالة. تحسين إدارة المياه، تنظيف مصادرها، وتطوير شبكات الصرف الصحي، خطوات أساسية للتقليل من انتشار الأمراض. مكافحة أماكن تكاثر البعوض، سواء في المنازل أو في المساحات العامة، تقلل من انتقال العدوى. أما على مستوى الأفراد، فالحفاظ على نظافة الغذاء، تخزينه بشكل صحيح خلال موجات الحر، وغسل الخضار والفواكه جيدًا، إضافة إلى الحرص على تجنب المياه الملوثة، كلها ممارسات تساعد في كسر دائرة الخطر.
لبنان يقف اليوم في لحظة حساسة أمام تغير مناخي لم يعد نظرية علمية بل واقعًا محسوسًا. ومع أننا نواجه تحديات بيئية وصحية متصاعدة، لا تزال هناك فرصة لتخفيف آثار هذا التغير، بشرط أن يتحول الوعي إلى فعل، وأن تتحول الوقاية إلى جزء من السلوك اليومي للفرد والمجتمع.
