وسائل الإعلام الرقمية تشكل الرأي العام في عصر ما بعد الحقيقة

في زمن ما بعد الحقيقة، حيث تتراجع الوقائع أمام سطوة العاطفة والانطباع، تحوّل الإعلام الرقمي إلى لاعب أساسي في صياغة وعي الجمهور وفي إعادة تشكيل آليات بناء الرأي العام، إذ لم يعد المتلقي ينتظر الخبر بل أصبح الخبر ينتظره ويتشكل وفق سلوكياته وتفضيلاته التي تُرصد وتُحلل بدقة عبر خوارزميات المنصات الرقمية. وتشير جامعة أكسفورد في تقريرها السنوي “Digital News Report 2024” إلى أن أكثر من سبعين في المئة من مستخدمي الإنترنت حول العالم يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أول للمعلومات، وهو ما يعزز هيمنة المحتوى السريع والمختصر الذي يتجاوز أحياناً شروط التدقيق والدقة لصالح سرعة الانتشار ودرجة التفاعل.
وتبرز خطورة الإعلام الرقمي في هذا السياق من قدرته على خلق فقاعات معرفية تحاصر الأفراد داخل مساحات فكرية ضيقة، إذ أثبتت دراسات معهد رويترز لدراسة الصحافة أن الخوارزميات تُظهر للمستخدم ما ينسجم مع ميوله السابقة، فيتلاشى تأثير التعددية الإعلامية ويتضخم تأثير المحتوى الموجه أو المليء بالتحيز. كما تؤكد تقارير منظمة اليونسكو لعام 2023 أن هذه الظاهرة تضاعف من انتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة التي باتت تشكل تحدياً عالمياً، خصوصاً عندما تستخدمها جهات سياسية أو اقتصادية للتأثير في السلوك العام أو توجيه المزاج الشعبي في قضايا حساسة.
وفي مقابل هذا المشهد المعقد، باتت صناعة الرأي العام تمر عبر مسارات جديدة لا تشبه تلك التي عرفتها المجتمعات في القرن الماضي، إذ تحولت المنصات الرقمية إلى ساحات نفوذ تتنافس فيها القوى السياسية والاقتصادية والإعلامية على تشكيل تصورات الناس وقناعاتهم. وتكشف دراسة صادرة عن مركز Pew Research عام 2024 أن جزءاً كبيراً من القرارات الانتخابية في عدد من الدول بات يتأثر بسيل المحتوى القصير والفيديوهات السريعة التي تنتشر في منصات مثل تيك توك وإنستغرام ريلز، وهي فضاءات تتفاعل فيها الرموز والصور والنبرات أكثر من الحقائق والوثائق.
ومع تصاعد تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنتاج المحتوى الإعلامي، تتضاعف التحديات الأخلاقية والمهنية، إذ تحذر مؤسسة Knight Foundation في تقريرها حول الإعلام والذكاء الاصطناعي لعام 2024 من أن أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على توليد سرديات كاملة ومقاطع فيديو مزيفة عالية الدقة، الأمر الذي يعزز قدرة الجهات المختلفة على خلق واقع بديل يبدو حقيقياً ويصعب كشفه دون أدوات متقدمة. ويضع ذلك الصحافة التقليدية أمام معركة لاستعادة الثقة وحماية الجمهور من التضليل عبر تعزيز الرقابة الذاتية والعودة إلى أسس التحقق المهني.
وفي خضم هذه التحولات، يصبح المتلقي نفسه جزءاً من صناعة الرأي العام لا مجرد مستقبل له، إذ تشير دراسة لجامعة ستانفورد عام 2023 إلى أن مشاركة المستخدمين في التعليق وإعادة النشر وصناعة المحتوى تمنحهم سلطة غير مسبوقة في إعادة تدوير الأخبار وصياغتها وإعادة توجيه دلالاتها، ما يجعل الجمهور مساهماً في إنتاج الحقيقة بقدر ما هو ضحية لتشويهها. وهكذا، يغدو الرأي العام نتاج تفاعل معقد بين المنصة والمستخدم وصناع المحتوى، في زمن تفقد فيه الحقيقة مركزيتها لصالح سرديات تتنافس على النفوذ والانتشار.
وفي النهاية، فإن الإعلام الرقمي في عصر ما بعد الحقيقة ليس مجرد وسيلة اتصال بل منظومة تأثير شاملة تعيد تعريف حدود المعرفة وتعيد تشكيل نمط التفكير الجمعي، الأمر الذي يفرض على المجتمعات والمؤسسات الإعلامية والتربوية صياغة مقاربات جديدة لفهم هذا العالم المتغير ومقاومة موجات التضليل التي تتكاثر على إيقاع الخوارزميات.
