Contact Us
Ektisadi.com
تكنولوجيا

انفجار الذكاء الاصطناعي...سباق إلى المستقبل أم اندفاع نحو الهاوية

IMG_1422

تشهد صناعة الذكاء الاصطناعي مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، مرحلة تتداخل فيها الوعود بطفرة تكنولوجية هائلة مع مخاوف جدية من اقتراب تشكّل فقاعة مالية قد تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات. فمنذ انطلاق موجة الذكاء الاصطناعي التوليدي ونجاحات منصات مثل ChatGPT وClaude وGemini، تتسارع التحذيرات من أن ما يحدث قد يكون نسخة جديدة وربما أضخم من فقاعة الدوت كوم في نهاية التسعينيات، وهو ما تشير إليه تقارير عدة أبرزها ما نشرته وكالة بلومبيرغ حول حجم الإنفاق الجنوني والرهانات غير المستقرة التي تدفع بها الشركات حول العالم. ويأتي هذا في وقت يتسابق فيه عمالقة التكنولوجيا وشركات النماذج التوليدية الناشئة إلى استثمار مئات المليارات في الشرائح المتقدمة ومراكز البيانات وكميات هائلة من القدرة الحاسوبية، ليس فقط لمجاراة الطلب المتزايد على الخدمات الحالية، بل استعداداً لتحوّل عميق من العمل البشري إلى العمل الآلي خلال السنوات المقبلة. وتوضح بلومبيرغ أن بعض التقديرات تشير إلى أن التكلفة الإجمالية للبنية التحتية المطلوبة خلال العقد المقبل قد تصل إلى تريليونات الدولارات، وهو مستوى من الإنفاق لم يشهد له القطاع التكنولوجي مثيلاً بهذا الحجم وفي هذا الزمن القياسي.

وتبرز مخاوف المحللين بشكل أكبر عند النظر إلى أساليب التمويل المستخدمة، إذ تعتمد شركات مثل OpenAI وAnthropic وxAI على مزيج من رأس المال المخاطر، والديون الضخمة، وترتيبات وصفها محللون لدى بلومبيرغ بأنها «تمويلات دائرية» حيث تضخ شركات مصنّعة للشرائح، وعلى رأسها إنفيديا، مليارات الدولارات في شركات الذكاء الاصطناعي التي تعود لتشتري منتجاتها من إنفيديا نفسها، وهو ما وصفه مراقبون بأنه قد يخلق «طلباً مصطنعاً» يدفع الأسعار والاستثمارات إلى مستويات غير واقعية. وقد لفتت بلومبيرغ كذلك إلى أن إعلان سام ألتمان عن خطة بنية تحتية بقيمة 500 مليار دولار شكّل صدمة في البداية، قبل أن يفاجئ الأسواق مجدداً بتأكيد التزام شركته بإنفاق 1.4 تريليون دولار على البنية التحتية خلال الأعوام القادمة، وهو رقم دفع بعض المحللين للتشكيك في قدرة نماذج الأعمال الحالية على توليد عائدات تغطي هذا الحجم غير المسبوق من النفقات.

وفي السياق نفسه، تشير بيانات بلومبيرغ إنتليجنس إلى أن الشركات الخمس الكبرى أمازون وألفابت ومايكروسوفت وميتا وأوراكل جمعت ما يقارب 108 مليارات دولار من الديون خلال 2025 فقط، أي ما يزيد بثلاثة أضعاف عن متوسط السنوات التسع السابقة، وهو مؤشر يؤكد أن شركات التكنولوجيا تستدين بوتيرة غير مسبوقة لتمويل سباق البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. وفي بعض الحالات، تعتمد هذه الشركات ترتيبات تضمن بقاء الدين بعيداً عن ميزانياتها العمومية، كما فعلت ميتا عبر صفقة بقيمة 30 مليار دولار رتبتها مورغان ستانلي لتكون الديون ضمن كيان خاص مرتبط بشركة “بلو أوول” للائتمان الخاص.

ويتعقّد المشهد أكثر عند النظر إلى الفجوة بين حجم الإنفاق المتوقع وحجم الإيرادات التي يمكن للشركات تحقيقها مستقبلاً. فوفقاً لتقرير لشركة Bain & Co. نقلته بلومبيرغ، ستحتاج شركات الذكاء الاصطناعي إلى نحو تريليوني دولار من الإيرادات السنوية بحلول 2030 لتغطية تكلفة القدرة الحاسوبية المطلوبة، لكن التوقعات تشير إلى فجوة تقدر بـ800 مليار دولار بين الإيرادات الممكنة والإيرادات المطلوبة، ما يعني أن قطاع الذكاء الاصطناعي قد يواجه ضغوطاً مالية قاسية إذا لم تتحقق قفزات إنتاجية جوهرية خلال وقت قصير. وقد عبّر مستثمرون مخضرمون مثل ديفيد إينهورن، وفق ما نقلته بلومبيرغ، عن مخاوفهم بالقول إن «الأرقام الحالية غير مفهومة»، وإن احتمال حدوث «تدمير رأسمالي هائل» بات واقعياً جداً مع استمرار الإنفاق دون وجود نموذج عمل واضح يضمن عوائد مستدامة.

ولا تقتصر مصادر القلق على التمويل فقط، بل تشمل أداء التقنية نفسها. فقد ذكّرت بلومبيرغ بدراسة صادمة لجامعة MIT كشفت أن 95% من الشركات لم تحقق أي عائد ملموس من استثماراتها في الذكاء الاصطناعي حتى عام 2024. وتلتها دراسة من جامعتي هارفارد وستانفورد أكدت أن جزءاً من المشكلة يكمن في انتشار ما يسمى “Workslop” أو «العمل منخفض القيمة»، أي المحتوى الذي تنتجه أدوات الذكاء الاصطناعي والذي يبدو صالحاً، لكنه لا يضيف أي تقدم فعلي في المهام، بل قد يسبب خسائر إنتاجية كبيرة للشركات. وهذا يتناقض مع ما تحاول شركات تطوير الذكاء الاصطناعي إثباته في تقاريرها الداخلية التي تؤكد بحسب ما لاحظته بلومبيرغ تحقيق المستخدمين مكاسب مهمة في الفاعلية والإنتاجية.

وتتضاعف علامات الاستفهام عندما تكشف بلومبيرغ أن شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى نفسها باتت تواجه تباطؤاً واضحاً في العائد من زيادة حجم النماذج وقوة تدريبها، وهي الفكرة التي شكلت أساس «قوانين التوسع» التي اعتمد عليها القطاع لسنوات. وظهر ذلك جلياً عند إطلاق GPT-5، الذي كان منتظراً كقفزة نوعية لكنه استقبل بفتور نسبي، ما دفع سام ألتمان للتصريح بأن «شيئاً مهماً ما يزال مفقوداً» لتحقيق الذكاء الاصطناعي العام. كما زادت المنافسة الصينية الضغط على وادي السيليكون، خصوصاً بعد نموذج DeepSeek منخفض التكلفة الذي أثار كما قالت بلومبيرغ خسارة تريليون دولار من القيمة السوقية لأسهم التكنولوجيا خلال أيام قليلة، قبل أن يعاود السوق صعوده لاحقاً.

ورغم التشابه الواضح مع مرحلة ما قبل انفجار فقاعة الإنترنت عام 2001، حيث ضخ المستثمرون في شركات بلا نماذج ربحية واضحة وبنوا بنية تحتية هائلة تجاوزت الطلب الحقيقي، يؤكد قادة الصناعة اليوم أنهم يرون خطراً أكبر في «عدم الإنفاق بما يكفي». فقد نقلت بلومبيرغ عن مارك زوكربيرغ قوله إن خسارة «بضع مئات المليارات» بسبب سوء التقدير ستكون مؤسفة، لكنها أقل ضرراً من عدم اللحاق بالفرصة الكبرى. بينما يرى ألتمان أن الذكاء الاصطناعي «أهم حدث تقني منذ زمن طويل»، وأن المخاطرة الحالية ضرورية للوصول إلى ذكاء عام يتجاوز قدرات البشر. ويعتمد هؤلاء على فرضية أن المستخدمين والشركات سيقبلون في المستقبل بدفع مبالغ كبيرة جداً مقابل خدمات الذكاء الاصطناعي، وقد ذكرت بلومبيرغ أن اشتراكات قد تبلغ 2000 دولار شهرياً نوقشت داخل أروقة OpenAI للأدوات المستقبلية القادرة على أداء مهام بمستوى «مساعد بدرجة دكتوراه».

وهكذا تتشكل صورة معقدة تجمع بين الطموح الهائل والمخاطرة الكبيرة. فمن جهة، يشير الواقع إلى أن الذكاء الاصطناعي يمتلك بالفعل القدرة على تغيير قطاعات كاملة من الاقتصاد، لكنه من جهة أخرى يعتمد على تمويلات مضخمة، ونماذج غير ناضجة، وتوقعات مستقبلية قد تكون بعيدة عن الواقع. وتخلص بلومبيرغ في تحليلها إلى أن الصناعة تقف اليوم على مفترق طرق: فإما أن تقود هذه الاستثمارات المليارية إلى ثورة اقتصادية جديدة، أو تنتهي إلى فقاعة تريليونية قد تكون الأكبر في تاريخ التكنولوجيا. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن السنوات المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي استثمار القرن أو أكبر خيبة مالية يشهدها العالم.