تراجع الإنتاجية والابتكار: كيف يغيّر العمل عن بُعد مستقبل الشركات

أصبح العمل عن بُعد من أبرز سمات الاقتصاد بعد جائحة كورونا. وبينما يبدو أن الموظفين يستمتعون بالمرونة، فإن التفاؤل الأولي بأن العمل عن بُعد سيزيد الإنتاجية تحول إلى واقع أكثر تشاؤمًا: إذ تتأثر أداء المنظمات، والتعاون، والابتكار، وثقافة مكان العمل بشكل ملموس، وفقًا لما أوردته صحيفة وول ستريت جورنال.
المكاتب أكثر من مجرد مساحة فعلية
تعمل المكاتب كبنية تحتية اجتماعية أساسية، حيث تُبنى العلاقات والثقة، ويحدث التعلم غير الرسمي، وتحُل المشكلات بسرعة بين الفرق. قبل الجائحة، لم يكن العمل عن بُعد يُفصل عن المكتب على نطاق واسع. وفصل الموظفين عن هذه المساحات المادية يضعف الروابط الأساسية التي تحافظ على تماسك المنظمات. الأنشطة التي كانت تحدث بشكل طبيعي مثل التوجيه، وحل المشكلات بشكل عفوي، وتبادل المعرفة تتطلب الآن جهدًا متعمدًا، وهو ما تفشل العديد من المؤسسات في تحقيقه.
السياق التاريخي: كيف أصبحت المكاتب مركزية؟
بدأت تطورات المكاتب في الولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي مع نمو الأعمال الإدارية والمؤسساتية. صُممت المكاتب المبكرة لتسهيل الوصول إلى الوثائق وتمكين الإشراف، مشابهة لإدارة المصانع للعمال. بحلول ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ المخططون يدركون أن العمل أكثر من مجرد التعامل مع الأوراق: المديرون كانوا يحلون النزاعات، وينسقون المهام، ويبنون الشبكات، بينما كان الموظفون العاديون يتفاوضون ويحلّون المشكلات بشكل جماعي.
بحلول الستينيات، صُممت المكاتب أكثر مع مراعاة احتياجات الإنسان كالضوء والضوضاء والإطلالات والخصوصية لتعزيز الأداء والإبداع. تضمنت بعض التصاميم عناصر كوميدية لكنها مقصودة، مثل الممرات الطويلة في Bell Labs، لتشجيع المحادثات العفوية التي يُعتقد أنها تحفز الابتكار. لعبت المكاتب أيضًا دورًا اجتماعيًا: تظهر الاستطلاعات أن حوالي 22% من الموظفين الأكبر سنًا تعرفوا على شركائهم في العمل.
المكاتب الصغيرة وصعود العمل الهجين
بحلول الثمانينيات، عكست جهود إعادة الهيكلة وتخفيض التكاليف هذه الاتجاهات البشرية. تقلص متوسط حجم المكتب بنسبة تقارب 50% منذ ذلك الحين، وظهر مفهوم الحجز المؤقت للمكاتب، حيث يحجز الموظف المكتب عند الحاجة. رغم كونه غير شعبي في البداية، عاد هذا النظام بقوة في الوقت الحالي.
عجلت الجائحة هذه الاتجاهات، حيث قلّصت الشركات كثيرًا من مساحات المكاتب لتخفيض التكاليف العقارية. أظهر استطلاع KPMG منتصف 2020 أن حوالي 70% من المديرين الماليين خططوا لتقليص مساحة المكاتب بشكل دائم. نتيجة لذلك، أصبح العمل الهجين شائعًا، لكن العديد من الموظفين لا يلتزمون بأيام الحضور المحددة. أفاد ما يقرب من نصف القادة بأن الموظفين يتغيبون عن أيام "المرساة"، بينما يعاني البعض من ظاهرة "القدوم لأخذ القهوة فقط" دون المساهمة الفعلية.
عواقب العمل عن بُعد
يوثق الرؤساء التنفيذيون والباحثون التأثيرات السلبية للعمل الهجين: بطء اتخاذ القرار، انخفاض الابتكار، ضعف التعلم غير الرسمي، وتراجع التعاون. وجدت دراسة KPMG في تموز/يوليو وآب/أغسطس 2024 أن 83% من 1,325 رئيسًا تنفيذيًا في 11 دولة يتوقعون عودة كاملة للعمل في المكتب خلال ثلاث سنوات، مما يعكس الحاجة الملحة لاستعادة ثقافة المكتب.
الإدارة والحلول
تعود العديد من التحديات إلى عدم استعداد الإدارة للتعامل مع فرق هجينة. يشير الخبراء إلى عدة استراتيجيات لتخفيف هذه المشاكل:
1. فرض الحضور في المكتب وقواعد الاجتماعات: ضرورة الحضور في أيام المرساة، تحديد حجم الاجتماعات، وإلزام المشاركين عن بُعد بتشغيل الكاميرات لمنع التشتت. أشار طلاب MBA في وارتون إلى أنهم يتبعون سلوك المدير: إذا حضر المدير، حضروا، وإذا استخدم الفيديو، فعلوا بالمثل.
2. إعطاء أهمية للتوجيه: يحتاج الموظفون الهجينون إلى توجيه مكثف حضوري لتعويض فرص التعلم غير الرسمية. ربط الموظفين الجدد بموجهين ذوي خبرة، وتعريفهم بأشخاص أساسيين، وإجراء فعاليات اجتماعية أو تدريبية دورية.
3. إعادة تعريف المسؤوليات الوظيفية: يجب على المديرين الموازنة بين الأداء الفردي والمهام التعاونية مثل المشاريع الجماعية، ومساعدة الزملاء، والإشراف على الجدد. يجب أن تعكس التقييمات والترقيات هذا التوازن.
4. جعل الحضور في المكتب مفيدًا: تنظيم أنشطة واجتماعات هادفة في أيام المرساة لتعزيز بناء العلاقات والتماسك بين الفرق.
5. وقف تقليص مساحات المكاتب: تقليص المساحات يقلل من فرص التعاون وجعل الموظفين الجدد بعيدين عن التواصل المباشر، فالحفاظ على مساحة كافية يضمن تعاونًا فعّالًا ودمجًا اجتماعيًا ومهنيًا للموظفين الجدد.
دور القيادة العليا
تتطلب هذه الحلول إنفاذًا قويًا من القيادة العليا. لا يمكن للمديرين المحليين بمفردهم الحفاظ على الانضباط الهجين أو تنمية ثقافة المكتب بفاعلية. يجب أن تأتي التغييرات التنظيمية من القيادة العليا لضمان الالتزام وتعزيز قيمة التعاون الحضوري.
يوفر العمل عن بُعد، مرونة وتوفيرًا في التكاليف، لكنه بدون إدارة مدروسة يضعف النسيج الاجتماعي الذي يجعل المؤسسات فعّالة. الشركات التي تنجح في تحقيق توازن بين التعاون الحضوري والعمل المرن ستحقق على الأرجح ابتكارًا وأداءً وثقافة أقوى في اقتصاد ما بعد الجائحة، وفقًا لتقارير وول ستريت جورنال.
