تراجع جديد في سوق السندات البريطانية وسط عدم اليقين السياسي

يشهد سوق السندات الحكومية البريطانية اليوم الجمعة، موجة تراجع جديدة، وذلك بعد تداول تقارير تفيد بأن راشيل ريفز، وزيرة الخزانة البريطانية، تعتزم التراجع بشكل كبير عن خططها لزيادة ضريبة الدخل في ميزانية الشهر الحالي.
فبحسب ما نقلت وكالة بلومببيرغ، يُقدم هذا التراجع الأخير والمحرج لحكومة حزب العمال نتيجة لمفاجأة سارة وردت من مكتب مسؤولية الميزانية البريطاني، والذي كان قد حذر سابقاً من وجود فجوة كبيرة في الميزانية ناجمة عن ضعف الإنتاجية في المملكة المتحدة.
ورغم الإعلان عن أن هذه الفجوة ستكون أقل اتساعاً بقليل مما كان متوقعاً وهو ما يُقدّم كسبب للتراجع، يُعتبر هذا التبرير زائفاَ في الغالب، ويدرك سوق السندات هذه الحقيقة بوضوح.
ووفقا لبلومبيرغ، كانت ريفز قد أمضت الأسبوعين الماضيين في التحضير لزيادات ضريبية بدت حتمية، وهي الخطوة التي كانت ستنسف تعهدها هي ورئيس الوزراء، كير ستارمر، في بيانهما الانتخابي بعدم زيادة الأعباء على العمال.
في السياق نفسه، أفادة بلومبيرغ، أنه بينما كان مسؤولو حزب العمال يناقشون مع مشرّعيهم كيفية إدارة "كارثة حكومية" تتمثل في التعامل الفاشل مع تهديد "انقلاب" طفيف ضد رئيس الوزراء، تبيّن أنهم كانوا يواجهون أيضاً احتمال تمرد داخلي آخر، وذلك بسبب مقترح رفع ضريبة الدخل، إذ تمتلك هذه الحكومة أغلبية ساحقة في مجلس العموم، مما يجعل فشلها المتكرر في تمرير سياساتها ظاهرة ستثير اهتمام علماء السياسة، وستستدعي دراستها لسنوات قادمة.
على مقلب آخر، كان تجنب إثارة قلق أسواق السندات هو السبب المعلن للإبقاء على ريفز وستارمر في منصبيهما، وسط حديث عن مؤامرات داخلية، و كان سيكون مثيراً للاهتمام رؤية ما إذا كانا سيحاولان تكرار هذا التبرير خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وعلى خلفية أخبار التراجع عن زيادة الضرائب، قفز عائد السندات الحكومية لأجل 30 عاماً، الذي يعكس تقييم المستثمرين للآفاق طويلة الأجل لبريطانيا بمقدار 10 نقاط أساس أي بنسبة 0.10 بالمئة.
في هذا الإطار، يبقى الهدف الأساسي لريفز هو خفض التضخم للسماح لبنك إنكلترا بخفض سعر الفائدة في الشهر المقبل. وهذا الأمر من شأنه أن يقلل من فاتورة خدمة الدين السنوية البالغة 110 مليارات جنيه إسترليني (144.5 مليار دولار)، إضافة إلى تحرير بعض المساحة المالية لحكومة تعاني من ضغوط شديدة.
ومن المتوقع أن يتم تخفيض ضريبة القيمة المضافة البالغة 5 بالمئة على الطاقة المنزلية إلى الصفر، مما سيدفع التضخم العام للانخفاض في خطوة فردية قد تثير إعجاب بنك إنجلترا، مع وجوب التعويض لهذا الفقدان الدائم في الإيرادات من مصدر آخر.
ومع تراجع الحكومة عن رفع ضريبة الدخل وتخطيطها لخفض ضريبة القيمة المضافة على الطاقة، يبرز التساؤل حول مصادر التمويل الجديدة لتعويض الإيرادات المفقودة، حيث تحوّل الحديث الآن إلى استهداف المعاشات التقاعدية الشخصية، وتحديداً خطة "تضحية الراتب" للإعفاءات الضريبية على مدخرات الموظفين.
وتشمل الخيارات الأخرى فرض ضرائب حكومية محلية أكبر على المنازل الأعلى قيمة، والتي قد تدر ما يصل إلى 5 مليارات جنيه إسترليني (6.55 مليار دولار أميركي).
كما قد تلجأ ريفز إلى التلاعب بعتبات الضرائب العليا، بهدف زيادة الإيرادات بما يتراوح بين 6 إلى 10 مليارات جنيه إسترليني (7.86 مليارا دولار إلى 13.1 مليارا دولار)، وذلك بالرغم أن هذا التكتيك سيكون له تأثير سلبي كبير على المستهلكين، وهو ما يتعارض مع هدف الحكومة المعلن بتحقيق النمو.
أما على صعيد الحكومة، فإنها تهدف إلى تحقيق مجال مالي متاح يصل إلى 20 مليار جنيه إسترليني (26.2 مليار دولار أميركي)، متجاوزة بذلك العجز المتوقع في المالية الحكومية الذي حدده مكتب مسؤولية الميزانية.
وفي ظل هذا السيناريو المالي، سيواجه العمال زيادات ضريبية كبيرة، سواء كانت مباشرة على الدخل أو بأساليب أخرى، حيث سيؤدي هذا الضغط الضريبي الكبير إلى إعاقة النمو الاقتصادي، الذي سيؤدي بدوره إلى انخفاض الإيرادات الضريبية المستقبلية، و تفاقم معضلة ميزانية المملكة المتحدة، كما سيشكل هذا المسار حلقة مفرغة معادية للنمو.
وتُساهم تقلبات وزيرة الخزانة ريفز في زيادة سوء الوضع، حيث أن الأسواق تنفر من عدم اليقين السياسي، فضلاً عن المخاوف من احتمالات الركود.
وعلى صعيد السندات، فقد شهدت عوائدها طويلة الأجل قفزة حادة اليوم الجمعة، حيث أوضح المتداولون أن خفض أسعار الفائدة المستقبلي من قبل بنك إنجلترا لن يُحسن الأوضاع المالية طويلة الأجل بشكل فوري.
ونظراً للاستحالة السياسية لخفض الإنفاق الحكومي وهو وضع لم يقتصر على حكومة العمال بل شمل الحكومات المحافظة السابقة أيضاً، لفإنه من المتوقع أن تتعرض الحكومة التي تفشل في تنفيذ إصلاحات مالية إلى المزيد من الاقتراض.
وفي هذا الصدد، يواجه سوق السندات سقف اقتراض قياسي لهذا العام المالي حيث يبلغ 300 مليار جنيه إسترليني (393 مليارا دولار أميركي)، بينما يمكن للسوق أن يستوعب زيادة محدودة في الديون، خاصة إذا كانت قصيرة الأجل (كسندات الخزانة).
و تشير التوقعات إلى ضرورة إصدار المزيد من الديون قبل نهاية العقد، إذ أن هذا العرض المستمر للديون سيعمل على الإبقاء على عوائد السندات مرتفعة، مما سيزيد من تكاليف الاقتراض على المملكة المتحدة، ويُبقي الضغط قائماً نتيجة للشكوك حول استدامتها المالية على المدى الطويل.
ومع استمرار الفوضى السياسية في داونينج ستريت، فإن الإجراء الوحيد الفعال لدعم سوق السندات هو تكرار الشراء الطارئ من بنك إنجلترا كما حدث في عهد تراس، إذ يُعد هروب الجنيه الإسترليني خطراً كبيراً، نظراً لأن الأجانب يملكون ثلث السندات، كما أن صناديق التقاعد المحلية لم تعد مشترٍ رئيسياً للديون طويلة الأجل.
و على الرغم من الآمال المعقودة على ميزانية ريفز لتحقيق الاستقرار عبر خلق مجال مالي، فإن حظها يتناقص بسرعة، حيث أصبح "انفجار" مالي حقيقي أمراً مطروحاً، ما سيحمل سوق الحكومة ع مزيدا من التراجعات القاسية.
