عشرة أعمدة للأُفُق السينمائي: رحلةٌ في أعماق السينما

أشرقت الأضواء فوق شريط الصور، لترسم أمامنا قصّاتٍ إنسانية تنبض بصفحات من القوة والضعف، الحبّ والخذلان، النور والظلّ؛ منها ما لم يتغيّر زمنه، بل بقي طاقته ساريةً في وجدان المشاهد. في هذا المسار، نستوقف عشرة أفلامٍ تشكّل أعمدةً في تاريخ الفن السينمائي، كلٌّ منها ينبض بخصوصيته وعمقه، ودلالاته التي تجاوزت وقتها لتلامس الأبدية.
1. في فيلم «The Godfather» (1972)، تبدو العائلة في ظاهِرها ملاكًا حارسًا، لكنها في باطنها منظومة سلطة، يُعيدُها المخرج Francis Ford Coppola إلى صورة إغراء الحلم الأميركي ومنحرفاته، عبر رحلة ابنٍ يهوى البرّ لكنه يُصرخ في الداخل: “لن أكون جزءاً من هذا بعد اليوم”. لقد وُصف الفيلم بأنّه دراسةٌ عن الفساد الذي يجتاح الحلم الأميركي ومصائر العائلة والجريمة.
الصورة الأخيرة حين تُغلق الباب على «مايكل كورليوني» تقول: السلطة وحدها لا تكفي، أعظم ثمنٍ فيها العزلة.
2. في «Casablanca» (1942) يقدمنا المخرج Michael Curtiz إلى مدينة الانتظار، مقهىً يعجّ بالمنفيّين والأحلام المشتعلة، وحبٌّ يتنازل عن نفسه لصالح فكرة أكبر من القلب؛ إذ تتحوّل قصة عشق إلى بطولة صغيرة في وجه الاحتلال. تحكي قائمة الموضوعات عن التضحية والإخلاص والواجب الشخصي حين تُعرض أمام الحروب والظلم.
وهنا يتّضح أن الحبّ لا ينقذ دوماً، لكن ما ينقذ هو القرار بالوقوف إلى جانب الحقّ، حتى لو كان على حساب السعادة الشخصيّة.
3. في «Schindler’s List» (1993) يضعنا Steven Spielberg في قلب مأساتيّة إنسانٍ اختار تغيير مسيرته من الربح إلى الخلاص، حين واجه الإبادة بالوعي والقرار. إن تصويره لتفاصيل اللحظة من أكوام الحقائب إلى تلك المعطفة الحمراء يؤشّر إلى كيف تُخفّف الصورة حضارة الإنسان من وحشيته.
الفيلم ليس مجرد سرد تاريخي، بل مشهد ضميرٍ حيّ، يطرح السؤال: ما الذي نستحقه إذا لم ننقذ ما يمكن إنقاذه؟
4. في «The Good, the Bad and the Ugly» (1966) يهدم المخرج Sergio Leone كلّ ميثولوجيا الغرب الأميركي مطلقاً، ليضعنا في صحراء بلا أبطالٍ تقليديين، بل رجالٌ يتقاذفون بين الجشع والبقاء والقتل، في سردٍ يصقل بأنغام Ennio Morricone التي أصبحت رمزاً خاصّاً لفيلمٍ أعاد تعريف البطولة.
في هذه اللوحة الرملية نجد أن «الخير» ليس بالضرورة صالحاً، و«الشرّ» ليس بالضرورة مثالياً، والتساؤل أخيراً: أيّاً منا يعيش في هذا الطيف؟
5. في «Ikiru» (1952) يحكي المخرج الياباني Yasujirō Ozu قصة موظّفٍ يُدرك مرضه ويبدأ رحلة البحث عن معنى وسط رتابة الحياة. الفيلـم يعكس على مشهد بسيط داخليّ بأنّ الموت ليس نهاية بل بداية للسؤال: لماذا عشت؟ وما تركت؟
ببساطته يكشف أن السعادة ليست في التسجيلات أو التقدّم، بل في اللحظة التي نختار فيها أن نكون.
6. في «Raging Bull» (1980) يُقدّم Martin Scorsese بطلاً غير بطوليّ، ملاكماً يحارب ذاته بقدر ما يحارب خصــمه، وينتهي بأنفســه هي العدوّ الأعظم. عبر تصويرٍ أسود-أبيضٍ صارخ، يعود الفيلم ليقول إنّ الكفاح ليس خلف الحبال وحدها، بل داخل الإنسان.
إنّ سقوطه ليس هزيمةً عليا، بل مرايا لَهَّمٍ ومسارٍ يمكن أن يكون مصيرَنا جميعاً.
7. في «Psycho» (1960) يحطّ المخرج Alfred Hitchcock بنا داخل بيتٍ يُفترض أن يكون مأوى، لكنّه يتحوّل إلى متاهة نفسية، وكأنّ الكابوس اليوميّ الذي لا نراه هو الذي يقتلنا. هنا ليس الوحش العلني، بل الصمتُ، والخيانة، والاختباء خلف قناعٍ مهترئ. ما بدّل قواعد اللعبة ليس الدم أو الصراخ، بل فكرة أن اليد التي تُطعِن غالباً هي اليد التي نمدّها للثقة أولاً.
8. في «La Dolce Vita» (1960) يصنع Federico Fellini رحلةً نافذة في روما الفخّامة والفوضى، حيث الصحفي الفارع يبدأ بالاحتفال ثمّ ينحدر إلى الخواء. الفيلـم ليس نقداً سطـحياً للترف بل سبرٌ لأعماق الإنسان الذي يستمتع ثمّ يجد نفسه سجينا للفراغ.
لقد كتب أحد النقّاد أنهما ليسا فقط «حياةً حلوة»، بل مسارٌ من التوقعات الخانقة والسراب المضاعف.
9. في «Barry Lyndon» (1975) يرفع Stanley Kubrick الكاميرا إلى قرنٍ من الزمان، في فيلمٍ تبدو لوحاته مرسومة بيد فنان تاريخي. عبر ضوء شمعة وعدسات علّيّة، ينقلنا إلى عهدٍ تتساوى فيه الثياب الغالية والنفوس الفارغة، ويُذكّرنا أن الزمن لا يُغيّر سوى المنظر، لكن الانكسار يبقى نفسَه.
إذ يصعد البطل من تحت إلى فوق، ثمّ يسقط، كما لو أن الحظّ قيدٌ ليس مدركاً.
10. وأخيراً «12 Angry Men» (1957) يرينا المخرج Sidney Lumet كيف يمكن لغرفة واحدة أن تكون ساحةً لحوارٍ أخلاقيّ، لامتناعٍ عن الحكم قبل النقاش، وللتغيير حين يُستمع الآخر. تكتمل الصورة حين يُصبح الحكم ليس من أجل العدالة فقط، بل من أجل أن نرى الآخر، وأن نُدرك أن في الصمت أيضاً جريمة.
في كلّ هذه الأفلام، لا نقرأ سوى وجوهٍ وأماكنٍ وقدماها ترسم في الرمال خطّاً واحداً: أن السينما ليست سجلاً للتسلية فقط، بل مرآةً للإنسان، ولمآزق وجوده، ولمسارات قراره. إنها تُذكّرنا بأن كل لقطةٍ تحمل سؤالاً، وكل مشهدٍ يحمل ثمنَاً.
حين تطرح نفسك أمام منجزٍ سينمائي كهذا، ربما ليس المطلوب أن تكتشف لماذا يُعد «عظيماً»، بل أن تكتشف لماذا يُحرّكك، لماذا يوقظك، ولماذا تبقى أنت أيضاً تُعيد النظر في نفسك.
