Contact Us
Ektisadi.com
اقتصاد

بين الانفتاح والانضباط... الصين تبحث عن توازن جديد للنمو

Gemini_Generated_Image_quza10quza10quza

في خطوة تُعد من أوسع التحركات الاقتصادية التي تشهدها الصين منذ سنوات، كشف مجلس الدولة الصيني عن حزمة مكوّنة من 13 إجراءً جديداً تهدف إلى تنشيط القطاع الخاص وتعزيز مشاركته في القطاعات التي كانت تقليدياً حكراً على الشركات الحكومية، وذلك في وقت تُكثّف فيه بكين جهودها لإعادة التوازن بين النمو الاقتصادي والانضباط المالي.

ويأتي هذا التوجّه بينما تواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم تحديات داخلية متزايدة، أبرزها تراجع الطلب المحلي وتباطؤ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي انخفض بأكثر من 10% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، بحسب بيانات رسمية.

لكن الإصلاح الجديد لا يتوقف عند حدود دعم القطاع الخاص؛ فبموازاة الانفتاح الاستثماري، شدّدت الحكومة القيود على اقتراض الشركات الحكومية من الخارج، في خطوة تستهدف الحد من تصاعد الدين المحلي الذي يُقدّر بنحو 14 تريليون دولار ويُعتبر أحد أخطر التحديات أمام استقرار الاقتصاد الصيني.

فتح القطاعات الاستراتيجية أمام المستثمرين

بحسب بيان اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح (NDRC) وهي الجهة الاقتصادية الأعلى في البلاد فإن الإجراءات الجديدة تركز على رفع حدود ملكية القطاع الخاص في مشاريع استراتيجية تشمل السكك الحديدية، وخطوط أنابيب النفط والغاز، والطاقة، والبنى التحتية الضخمة.

كما تم إلغاء عدد من القيود الإدارية والتمويلية التي كانت تحدّ من مشاركة الشركات الخاصة في المشاريع الوطنية الكبرى، إضافة إلى تبسيط آلية الموافقات الحكومية. ووفقاً للبيان، فإن المشاريع التي تتقدّم بها الشركات الخاصة ستُخضع لـ دراسات جدوى اقتصادية دقيقة تضمن تحقيق عائد استثماري معقول وتوفّر فرص عمل مستدامة.

للمرة الأولى، سيسمح للشركات الخاصة بتملك حصص تتجاوز 10% في المشاريع المؤهلة، وهو ما وصفته وسائل إعلام صينية بأنه "تحول نوعي في فلسفة الإدارة الاقتصادية" لبكين.

ونقلت صحيفة Economic Information Daily عن وو يوهونغ، الباحثة في اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، أن هذه الخطوة تأتي امتداداً لإصلاحات بدأت منذ أغسطس 2024، عندما سمحت الحكومة لأول مرة للشركات الخاصة برفع حصتها في خمسة مشاريع للطاقة النووية من 2% إلى 10% وأضافت: "ما نراه اليوم هو توسيع لنموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ولكن بعمق أكبر ومرونة أعلى".

تحفيز حقيقي أم استجابة ظرفية؟

تُشير بعض التحليلات إلى أن هذه الإجراءات ليست مجرد دفعة مؤقتة للقطاع الخاص، بل هي جزء من خطة بعيدة المدى لإعادة بناء الثقة مع المستثمرين المحليين والأجانب، بعد فترة من الانكماش والضبابية التنظيمية.

فمنذ عام 2021، شهدت الصين تراجعاً حاداً في استثمارات الشركات الخاصة نتيجة تشديدات تنظيمية طالت قطاعات التكنولوجيا والتعليم والعقارات، ما أثار قلق المستثمرين من بيئة عمل غير مستقرة.

ويقول الاقتصادي تشن هاو من بنك "تشاينا إنترناشونال كابيتال":

"القطاع الخاص في الصين يوظّف أكثر من 80% من العمالة في المدن ويساهم بأكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك فإن إنعاشه ليس خياراً اقتصادياً فقط، بل ضرورة اجتماعية وسياسية أيضاً" حسب بلومبيرغ.

ويرى مراقبون أن انفتاح بكين الجديد يهدف إلى تحفيز النمو الصناعي والابتكار المحلي، خاصة في ظل المنافسة التكنولوجية المتصاعدة مع الولايات المتحدة، واحتدام الحرب التجارية التي تضغط على الصادرات الصينية.

تقييد ديون الشركات الحكومية

في المقابل، وفي خطوة تُظهر الوجه الآخر من سياسة "العصا والجزرة"، شرعت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في تشديد القيود على اقتراض الشركات الحكومية من الخارج، خصوصاً تلك التي تعمل على المستوى الإقليمي أو ترتبط بـ الحكومات المحلية.

وذكرت مصادر مطلعة نقلتها وكالة بلومبيرغ أن اللجنة أصدرت تعليمات جديدة خلال الأسابيع الأخيرة، تفرض على هذه الشركات إثبات ربحيتها الفعلية ووضوح نطاق أعمالها الأساسية قبل السماح لها بالحصول على حصص إضافية من الديون الخارجية.

وبحسب المصادر، فإن الموافقات ستُمنح على أساس كل حالة على حدة، في حين ستُمنع الشركات التي لا تمتلك نموذجاً إنتاجياً واضحاً كالتصنيع أو التعدين من التوسع في الاقتراض الدولي.

وتُلزم اللوائح الجديدة جميع الشركات الصينية بالحصول على موافقة مسبقة من اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح قبل إصدار أي سندات أو قروض خارجية تتجاوز مدة سنة واحدة، كما يُسمح لها فقط بإعادة تمويل الديون القديمة دون التوسع في قروض جديدة.

تأتي هذه الإجراءات في ظل تصاعد المخاوف من تضخم الديون الحكومية المحلية، التي وصلت إلى مستويات تهدد الاستقرار المالي للبلاد. وتشير تقديرات المؤسسات الدولية إلى أن إجمالي الدين الحكومي الصيني بما في ذلك ديون الحكومات المحلية وأدوات تمويلها (LGFVs) يناهز 83% من الناتج المحلي الإجمالي.

وقال خبير السياسات المالية ليو وي في حديث لوكالة رويترز إن "توسيع القيود على الشركات الحكومية هو بمثابة إنذار لبقية الأجهزة الإدارية"، مضيفاً أن "القيادة تسعى إلى تحويل الصين من اقتصاد مفرط الرفع المالي إلى اقتصاد أكثر كفاءة في استخدام رأس المال".

وأضاف أن الحكومة بدأت تلاحظ "تحوّل بعض أدوات التمويل المحلية إلى شركات حكومية شكلية لتجاوز الرقابة"، وهو ما تحاول اللجنة التصدي له من خلال التشديد الجديد.

بين الدولة والسوق: معادلة التوازن

يرى محللون أن التحرك المزدوج فتح القطاعات أمام رأس المال الخاص من جهة، وضبط الاقتراض الحكومي من جهة أخرى يُظهر أن بكين تحاول رسم مرحلة جديدة من الإصلاح الاقتصادي تقوم على "المرونة والانضباط في آن واحد".

ويقول الخبير ليو شين من جامعة رنمين في بكين:

"الصين تدخل مرحلة إعادة توازن عميقة بين الدولة والسوق. القيادة تريد أن تستعيد الدولة السيطرة على المخاطر المالية، لكنها تدرك أيضاً أن الابتكار والنمو يحتاجان إلى حرية أكبر للقطاع الخاص."

ويضيف أن الإصلاحات الجديدة "تأتي استجابة لتراجع الثقة الاقتصادية العالمية بالصين، ومحاولة لإعادة جذب الاستثمارات الدولية التي بدأت تتحول نحو أسواق بديلة في آسيا والهند".

أثر متوقع على الأسواق

يتوقع خبراء الأسواق المالية أن تؤدي الإجراءات الجديدة إلى زيادة في حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية المباشرة، خصوصاً في قطاعات البنية التحتية والطاقة، حيث يُتوقّع أن تتجاوز الاستثمارات الخاصة 200 مليار دولار خلال العامين المقبلين إذا ما تم تنفيذ الحزمة بالكامل.

في المقابل، من المرجح أن يؤدي تشديد الإقراض الخارجي إلى تباطؤ نسبي في توسع الشركات الحكومية، لكن دون أن يهدد قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، إذ ستُمنح الأولوية لإعادة التمويل بدلاً من التوسع.

التحرك الصيني الأخير يكشف عن تغير جوهري في المقاربة الاقتصادية: فبعد عقد من النمو المعتمد على الدولة، تتجه بكين إلى توزيع أدوار جديدة بين الحكومة والسوق. فالقطاع الخاص سيُمنح مساحة أوسع للإبداع والمنافسة، بينما ستُفرض على المؤسسات الحكومية قيود أكثر صرامة لضمان استدامة التمويل العام.

ومع أن هذه الإجراءات قد تُحدث تباطؤاً مؤقتاً في بعض القطاعات الحكومية، إلا أن الأثر البعيد المدى قد يكون تعزيزاً للشفافية وتوسيعاً لقاعدة النمو، وهو ما قد يساعد الصين على مواجهة مرحلة اقتصادية عالمية تتسم بعدم اليقين وتراجع السيولة الدولية.

فبين الانفتاح والانضباط، يبدو أن الصين تُعيد هندسة اقتصادها لا لتغيّر وجه النمو فحسب، بل لتضمن بقاءه مستقراً في عالم سريع التحوّل.