من الآلة الكاتبة إلى الذكاء الاصطناعي... 8 أميركيين يروون تحوّلات العمل خلال نصف قرن

في عالمٍ تُقاس فيه المسيرة المهنية بعدد التنقلات بين الشركات، يظلّ هؤلاء الثمانية كأنهم من زمنٍ آخر. رجال ونساء أمضوا أكثر من نصف قرن في شركاتهم، شهدوا انتقال العمل من الورق إلى الشاشة، ومن ضوضاء الآلة الكاتبة إلى صمت الخوارزميات وثورة الذكاء الاصطناعي. عاصروا ولادة البريد الإلكتروني والهواتف الذكية، رأوا الروبوتات تدخل المصانع والنساء يصعدن سلّم الإدارة، وتحوّل الزمن من انتظار الفاكس إلى ردّ فوري في ثوانٍ. هم شهودٌ على التاريخ العملي الحديث، أحياءٌ في أرشيف الشركات، وجزءٌ من ذاكرتها الحية.
تسرد وول ستريت جورنال في بادرة مثيرة اليوم الأحد، قصص ثمانية وجوه، وثمانية عصور تختصر رحلة العمل في أميركا من الصناعة إلى البرمجة. من النقّاش اليدوي إلى مهندس الشرائح، ومن موظفة المبيعات إلى مديرة الفلسفة، يجتمعون على فكرة واحدة: العمل ليس مجرد وسيلة عيش، بل هو حوار مستمرّ مع الزمن. التكنولوجيا غيّرت الأدوات، لكنها لم تُلغِ الحلم البشري بالإنجاز، ولا الرغبة في أن يترك الإنسان أثرًا باسمه، سواء على قطعة فضية أو على شاشة مضيئة. وفي عالم الذكاء الاصطناعي، تبدو قصص هؤلاء الثمانية تذكيرًا صامتًا بأن الإنسان هو التقنية الأولى والأجمل.
1 - جاكلين غراف – من "شريط الورق" إلى شاشة الماسح الضوئي
عام 1970، حين التحقت جاكلين غراف بمتجر Target في كولورادو، لم تكن الرموز الشريطية قد وُجدت بعد. كانت الآلات تُصدر شرائط مثقوبة تُرسل يدويًا للمقرّ الرئيسي لتحليل المبيعات.
آنذاك، كانت المتاجر تبيع الباروكات وتقدّم وجبات الغداء في مطاعمها الداخلية، فيما كانت غراف تكتب الأرقام الطويلة على آلة تسجيل نقدية تُصدر صوتًا أشبه بآلة التلغراف.
اليوم، وبعد 55 عامًا، صارت أجهزة المسح الضوئي تحسب الأسعار خلال جزءٍ من الثانية، والعملاء يشترون من منازلهم، والمتجر أصبح جزءًا من شبكة رقمية ضخمة.
بين الماضي والحاضر، اختبرت جاكلين تحول المتجر من مكانٍ اجتماعي صاخب إلى تجربة شبه افتراضية، لكنها تقول: "أنا أزدهر حين يتغير كل شيء. التغيير لا يخيفني، بل يبقيني حية".
تُعرف بين زملائها بلقب "الملكة"، لا لمكانتها الوظيفية، بل لأنها أقدم موظفة بين 400 ألف عامل في الشركة. في الثمانين، ما زالت تعمل أربعين ساعة أسبوعيًا، وتؤكد بابتسامة حقيقية: "الناس هم ما يبقيني سعيدة. الجدران لا تتكلم".
2 - هارولد غاينر – حين تنقش اليد ما لا تقدر عليه الآلة
بدأ هارولد غاينر مسيرته في Tiffany & Co. عام 1961، صبيًا في السابعة عشرة من عمره. لم يكن عالمه يشبه عالم اليوم. لم تكن هناك طابعات ليزر ولا أجهزة رقمية، بل أدوات معدنية دقيقة وأصابع تتعلّم الصبر.
نقش بيديه 15 كأسًا من جوائز السوبر بول وعددًا لا يُحصى من القطع الفضية الممهورة بأسماء المشاهير.
يتحدث غاينر عن مهنته كما يتحدث موسيقي عن آلته: "النقش يشبه نحت الخشب، لكنه يحتاج أنفاسًا أكثر دقة. أبدأ بطلاء القطعة بلون أبيض سريع الجفاف، أرسم التصميم بالقلم الفولاذي، ثم أحفر المعدن حتى يصبح الاسم خالدًا".
ستة عقود مرت، والتقنيات الرقمية غزت العالم، لكنه ما زال يؤمن أن الروح لا تُنسخ: "يقولون إن الروبوتات ستنقش أفضل منا. لا أظن ذلك. لا آلة تملك رعشة اليد حين تمرّ فوق الفضة".
3 - بوبي برانسفيلد – حين أصبح الإيمايل أسرع من القرار
عام 1994، دخل بوبي برانسفيلد شركة Prologis، وكانت صغيرة تضم 60 موظفًا. لم تكن الهواتف المحمولة شائعة بعد، وكانت القرارات تحتاج أيامًا من البحث والاجتماعات.
اليوم، يقود برانسفيلد إدارة صناديق الاستثمار العقاري في شركة عملاقة تمتد إلى 20 دولة، ويقول متأملًا: "في الماضي، كان يوم العمل له بداية ونهاية. اليوم، كل شيء ممتد بلا فاصل. لا نغلق أجهزتنا، ولا نغلق عقولنا".
يرى أن التكنولوجيا منحت الشركات سرعة، لكنها سلبت الناس الإيقاع الإنساني، ويقول: "المنافسة جعلتنا نركض. التكنولوجيا مكّنتنا، لكنها أيضًا قيدتنا. الهاتف صار امتدادًا لأيدينا".
بين مكاتب الأمس الورقية والبريد الإلكتروني اليومي، اختزل برانسفيلد جوهر التحوّل: العمل أصبح عملية مستمرة، لا تتيح وقتًا للانتظار ولا مساحة للتأمل.
4 - آرثر بورتر وكالبيرت رايت – حين صارت الروبوتات زملاء
في مصنع فورد بمدينة شيكاغو، يعمل آرثر بورتر (86 عامًا) وكالبيرت رايت (85 عامًا) منذ ستينيات القرن الماضي، أي منذ أن كانت حرارة المصنع تتجاوز المئة درجة ولا امرأة واحدة بين العمال.
آنذاك، كانت الروبوتات مجرد فكرة علمية. لكن في السبعينيات، حين وصلت أولى الآلات الآلية، كانت بطيئة ومليئة بالأخطاء.
اليوم، أصبحت الروبوتات جزءًا من المشهد اليومي، تعمل بلا كلل ولا خطأ.
يقول رايت بابتسامة متعبة: "كنا نعيد صنع الأجزاء التي أفسدتها الروبوتات. الآن صرنا نحن نصلحها فقط عند الحاجة".
أما بورتر، فيجد في العمل سرّ الحياة: "أمي كانت تقول: ابقَ مشغولاً، وإلا سيغطيك التراب. وأنا فعلت ذلك، بقيت مشغولاً خمسين سنة".
يُجمع الاثنان على نصيحة واحدة لكل جيل جديد: "لا تتوقف عن الحركة. الجسد الذي يجلس يصدأ".
5 - فنسنت ستانلي – من موج البحر إلى فلسفة «باتاغونيا»
حين التحق فنسنت ستانلي بشركة Patagonia عام 1973، لم يكن يتخيّل أن ورشة صغيرة لصناعة أدوات التسلق ستصبح لاحقًا رمزًا عالميًا للاستدامة.
يقول ضاحكًا: "في أول يوم عمل، ذهب مديري لركوب الأمواج، فاضطرّت المحاسبة لتعلّمني الحسابات خلال ساعتين. ومن هناك بدأت قصتي".
كان ابن شقيقة المؤسس، لكنه لم يدخل بدافع القرابة فقط، بل بدافع حب المغامرة. ويقول: "كنت أريد أن أسافر. لم أكن أنوي البقاء. لكن روح المكان جعلتني أستمرّ".
اليوم، كمدير للفلسفة في الشركة، يرى ستانلي أن التكنولوجيا أفقدت الناس صلتهم بأيديهم: "شبابنا يصممون الملابس على الحاسوب دون لمس القماش. يفقدون الإحساس بالمادة، وهذه مشكلة سنواجهها أكثر مع الذكاء الاصطناعي".
6 - رون ستافني – "العرّاب" الذي يرى الخلل من بعيد
من مزرعة ألبان في ويسكونسن إلى مصانع 3M، بدأت رحلة رون ستافني عام 1965.
التحق بالشركة وهو في الثامنة عشرة، حين كانت كل الأوراق تُكتب باليد، ولم تكن أجهزة الحاسوب قد وصلت.
عمل على خطوط إنتاج منتجات بسيطة، مثل شريط "سكوتش" اللاصق، ثم انتقل إلى تطوير الألياف الصناعية المستخدمة في الطائرات والمركبات الفضائية.
اليوم، يُلقب بين زملائه بـ"أوبي رون كينوبي" و"عرّاب الألياف"، لأنه قادر على اكتشاف المشكلات التقنية بنظرة واحدة.
يقول عن سرّ استمراره: "أستيقظ الرابعة صباحًا، أمارس التمارين، أبدأ يومي بطاقة. طالما أستطيع أن أكون مفيدًا، فلست متقاعدًا بعد".
7 - ديريك بنش – من إعلان في صحيفة إلى هندسة المستقبل
عام 1987، رأى ديريك بنش إعلانًا صغيرًا في صحيفة سان دييغو يونين تريبيون. لم يكن يعرف شركة Qualcomm، لكنه تقدّم لوظيفة فنيّ شاب.
لم يكن أحد يتخيل أن الشركة ستصبح بعد عقود قلب صناعة الاتصالات في العالم.
يقول بنش: "الدهشة الكبرى كانت في سرعة الأتمتة. كل شيء أصبح يتم بأقل عدد من الناس وبأضعاف الإنتاجية".
لكنه يضيف: "رغم كل التكنولوجيا، ما زالت العلاقات الإنسانية هي جوهر النجاح. إذا لم تحبّ من تعمل معهم، فلن تصمد".
اليوم، يشرف على فرق تصميم شرائح الموجات المليمترية في الهواتف والأجهزة الذكية.
تغير العالم حوله، لكنه ما زال يعتقد أن "أفضل تقنية هي التي تجمع الناس لا التي تعزلهم".
8 - ستانلي هايلبرون – حين كانت الأسهم تُعلّق على لوحة خشب
في ستينيات القرن الماضي، كان ستانلي هايلبرون (82 عامًا) يقف أمام لوحة خشبية كبيرة يدوّن عليها حركة مؤشر "داو جونز" يدويًا كل ساعة.
للحصول على سعر سهم واحد، كان عليه الاتصال برقم هاتفي والاستماع لتسجيل صوتي.
اليوم، يجلس في مكاتب Merrill Lynch، يستخدم نماذج تحليل رقمية معقّدة لإدارة ثروات عملائه وأبنائهم.
بين تلك اللوحة الخشبية وشاشة الكمبيوتر، يرى هايلبرون قصة التطور المهني: "الفرق بين الأمس واليوم أن العمل أصبح علمًا قائمًا على البيانات، لا مجرد حدس السوق".
يعمل اليوم مع ابنيه، ويقول: "طالما عندي صحة وطاقة، لن أتقاعد. التقاعد يعني أن أزور الطبيب أكثر مما أزور الناس".
