كيف يحوّل الميكروفون الصوت إلى كهرباء... رحلة الموجة من الهواء إلى الإشارة

قد يبدو الأمر وكأنه سحرٌ خالص حين تتحدث أمام الميكروفون، فيلتقط صوتك بوضوحٍ مدهش، لكن خلف هذا “السحر” تختبئ واحدة من أذكى تطبيقات الفيزياء في الحياة اليومية. فالميكروفون في جوهره ليس سوى جهازٍ يحوّل الطاقة الصوتية وهي اهتزازات ميكانيكية في الهواء إلى طاقة كهربائية يمكن تخزينها أو نقلها أو تعديلها. وهذه العملية البسيطة في مظهرها تخضع لمبادئ دقيقة من علم الموجات، والكهرباء، والمغناطيسية.
عندما تتحدث، تتحرك جزيئات الهواء أمام فمك ذهابًا وإيابًا بسرعةٍ تعتمد على حدة صوتك وقوّته. هذه الحركة تولّد موجات ضغط تنتشر في الهواء، تمامًا مثل الأمواج الصغيرة التي تتكوّن على سطح الماء عند رمي حجرٍ فيه. وما إن تصل هذه الموجات إلى الميكروفون، حتى تصطدم أولاً بقطعة شديدة الحساسية تُعرف باسم الغشاء (Diaphragm)، وهو غشاء رقيق للغاية، أشبه بطبلة الأذن البشرية، يهتزّ استجابةً لأدقّ التغيّرات في ضغط الهواء.
لكن هنا يبدأ الجزء المدهش من القصة. فخلف هذا الغشاء توجد آلية ذكية تختلف باختلاف نوع الميكروفون.
في الميكروفونات الديناميكية، التي تُستخدم عادةً في المسارح والحفلات والأماكن الصاخبة، يُثبّت الغشاء في ملف نحاسي صغير موضوع داخل مجال مغناطيسي دائم. وعندما يهتز الغشاء مع الموجات الصوتية، يهتز معه الملف، مما يقطع خطوط المجال المغناطيسي فيولد تيارًا كهربائيًا متناوبًا. هذا التيار يتغير بدقة تبعًا لشكل الموجة الصوتية الأصلية، فيصبح تمثيلاً كهربائيًا للصوت. أي أن كل نغمة وكل تردد وكل ارتفاع في الصوت يتحول إلى تغيّر دقيق في شدة التيار واتجاهه.
أما الميكروفونات المكثّفية (Condenser Microphones)، التي تُستخدم عادةً في الاستوديوهات بسبب حساسيتها العالية، فتعمل بطريقة مختلفة تمامًا. إذ يتكوّن قلبها من لوحين معدنيين رقيقين – أحدهما هو الغشاء نفسه – يُشكّلان معًا مكثفًا كهربائيًا. عندما تهتز الموجات الصوتية، تتحرك المسافة بين اللوحين قليلًا، مما يؤدي إلى تغير في السعة الكهربائية للمكثف. هذا التغيّر يولّد فرق جهد كهربائي يتبع نفس شكل الموجة الصوتية. وغالبًا ما تحتاج هذه الميكروفونات إلى مصدر طاقة خارجي (مثل فانتوم باور 48 فولت) لتشغيل داراتها الإلكترونية الدقيقة.
بعد توليد الإشارة الكهربائية، تبدأ مرحلة جديدة من الرحلة. فالإشارة الناتجة عن الميكروفون ضعيفة جدًا لا تتعدى بضعة ملي فولت لذا تمرّ أولاً عبر مضخّم صوتي (Preamp) يقوم بتقوية الإشارة من دون تغيير شكلها. بعد ذلك يمكن نقلها إلى أجهزة التسجيل أو إلى مكبرات الصوت أو حتى إلى الحاسوب للتحرير الرقمي. هناك، تُحوَّل الإشارة التناظرية إلى بيانات رقمية عبر محوّل خاص، بحيث يمكن معالجتها، وتنقيتها من الضوضاء، ومزجها مع أصوات أخرى.
وفي الاتجاه المعاكس، تقوم مكبرات الصوت بعكس العملية: فهي تستقبل الإشارة الكهربائية نفسها التي خرجت من الميكروفون (بعد تعديلها أو تخزينها)، ثم تستخدمها لتحريك غشاءٍ آخر يهتز ويعيد إنتاج الموجات الصوتية من جديد. وهكذا تكتمل الدورة: صوت يتحول إلى كهرباء، ثم كهرباء تتحول إلى صوت، في رحلة خفية تديرها الفيزياء.
من المدهش أن هذه المبادئ الأساسية لم تتغير كثيرًا منذ اختراع أول ميكروفون في القرن التاسع عشر، وإن كانت التكنولوجيا قد طوّرت أشكاله ووسائل دعمه الإلكتروني. فالميكروفون الحديث قد يحتوي على معالجات رقمية مدمجة، وأنظمة لعزل الضوضاء، وتقنيات لتحسين النغمة وجودة التسجيل، لكنه لا يزال في جوهره يعتمد على تفاعل بسيط بين الهواء والمعادن والمجال المغناطيسي.
إنه، ببساطة، مترجمٌ بارع بين عالم الموجات وعالم الكهرباء. يلتقط ما لا يُرى ولا يُلمس اهتزازات دقيقة في الهواء ويحوله إلى نبضات إلكترونية يمكن أن تسافر آلاف الكيلومترات، لتصل في النهاية إلى أذن إنسانٍ آخر كما لو كنت تتحدث أمامه مباشرةً. ما يبدو كعملٍ سحري، هو في الواقع سيمفونية دقيقة من القوانين الفيزيائية تعمل بتناغم تام لتجعل الصوت يُسمع من جديد.
