Contact Us
Ektisadi.com
اقتصاد

كيف تُهدّد سيطرة الصين على سلاسل التوريد أمن واقتصاد الولايات المتحدة

Gemini_Generated_Image_am9xdmam9xdmam9x

في وقت تتصاعد فيه التوترات التجارية والتكنولوجية بين بكين وواشنطن، تتكشف ملامح اعتماد خطير للاقتصاد الأميركي على الصين في مجالات تمتد من المعادن النادرة إلى الأدوية، مروراً بالرقائق الإلكترونية وبطاريات الليثيوم. وبينما تسعى الولايات المتحدة لتقليل هذا الاعتماد، تكشف الأرقام أن الصين لا تزال تمسك بخيوط سلاسل التوريد العالمية، ما يمنحها ورقة ضغط اقتصادية وجيوسياسية هائلة.

بحسب صحيفة وول ستريت جورنال، أظهرت الصين قدرتها على تسليح سلاسل التوريد في النزاعات التجارية، خاصة بعد استخدامها المعادن الأرضية النادرة كوسيلة ضغط خلال المواجهة الاقتصادية مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

ويشير التقرير إلى أن هذه التجربة جعلت واشنطن تدرك أن التبعية للصين في القطاعات الحيوية لا تقتصر على الموارد الخام فحسب، بل تشمل المكونات الصناعية المعقدة التي تُعد أساس الصناعات التكنولوجية والعسكرية.

ووفقاً لمعهد أبحاث السياسات العالمية، فإن الصين استخدمت منذ التسعينات استراتيجية "الاختناق الاقتصادي"، أي السيطرة على نقاط حيوية في سلاسل الإنتاج العالمية، ثم فرض قيود أو رسوم تصدير لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.

تُعد المعادن الأرضية النادرة مثل النيوديميوم والديسبروسيوم والغادولينيوم عنصراً حاسماً في إنتاج الأسلحة الذكية والطائرات المقاتلة والسيارات الكهربائية. ووفقاً لتقرير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS)، تُنتج الصين أكثر من 70% من إجمالي هذه المعادن عالمياً، وتُسيطر على 85% من عمليات التكرير والمعالجة.

ويقول الخبير الاقتصادي دانيال روزين من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) إن "أخطر ما في الهيمنة الصينية ليس حجم الإنتاج، بل السيطرة على المراحل الوسطى من السلسلة أي تحويل الخام إلى منتج صناعي جاهز، وهي العملية التي تحتاج إلى تكنولوجيا ومعايير بيئية صارمة لا يملكها سوى عدد محدود من الدول".

كما أكدت وكالة رويترز أن الصين تفرض قيوداً على تصدير بعض المعادن الحساسة مثل الغاليوم والجرمانيوم، ما تسبب في تعطيل مصانع في أوروبا والولايات المتحدة في عام 2024.

بطاريات الليثيوم: قلب الثورة الكهربائية في يد بكين

بحسب الوكالة الدولية للطاقة (IEA)، تنتج الصين نحو 79% من الكاثودات و92% من الأنودات المستخدمة في بطاريات الليثيوم-أيون، وهي المكونات الأساسية في السيارات الكهربائية والهواتف وأجهزة تخزين الطاقة.

وتشير Benchmark Mineral Intelligence إلى أن الشركات الصينية مثل CATL وBYD تهيمن على أكثر من ثلثي السوق العالمية للبطاريات. حتى البطاريات التي تُصنع خارج الصين غالباً ما تحتوي على مواد أساسية صينية المنشأ.

وفي عام 2023، أصدرت وزارة التجارة الصينية قراراً يفرض تراخيص على تصدير التكنولوجيا المتعلقة بإنتاج البطاريات، في خطوة فسّرها محللون في بلومبيرغ بأنها "رسالة تحذير مبطّنة" إلى الغرب، مفادها أن أي عقوبات أو قيود على الشركات الصينية في مجالات الذكاء الصناعي أو أشباه الموصلات ستقابلها إجراءات انتقامية في مجال الطاقة الخضراء.

الرقائق الإلكترونية: سيطرة على البنية التحتية التقنية للعالم

رغم أن الصين لا تزال متأخرة في تصنيع الرقائق الأكثر تقدماً، إلا أنها تسيطر على حوالي ثلث الإنتاج العالمي من الرقائق الناضجة، وهي ضرورية لصناعة السيارات والطائرات المدنية والإلكترونيات الاستهلاكية، بحسب مجلس التكنولوجيا الدولي (ITC Council).

ووفقاً لتقرير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS) لعام 2024، تُنتج الصين 99% من الغاليوم العالمي وقرابة 80% من الجرمانيوم، وهما معدنان يُستخدمان في صناعة الرقائق والألواح الشمسية وأنظمة الاتصالات المتقدمة.

وفي منتصف عام 2023، فرضت بكين قيوداً على تصدير هذه المعادن، مما أدى إلى اضطرابات في الإمداد أجبرت شركات مثل Intel وInfineon وSamsung على البحث عن بدائل في أسواق أخرى، وفقاً لتقرير صادر عن Financial Times.

وتعليقاً على هذه التطورات، قالت الخبيرة في الاقتصاد الصناعي ليندا جاكوبسن لـ BBC News إن "الصين تُمارس لعبة طويلة المدى؛ فهي تُغرق السوق بالمنتجات منخفضة السعر لتدمير المنافسين، ثم تفرض قيوداً استراتيجية عندما تنفرد بالسوق".

الدواء كسلاح محتمل في الصراع الاقتصادي

تتسلل السيطرة الصينية حتى إلى ما هو أكثر حساسية: قطاع الأدوية. فوفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية (WHO)، تعتمد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الصين في أكثر من 40% من المكونات الصيدلانية الفعالة (API) المستخدمة في صناعة الأدوية.

ويُقدّر مجلس المخاطر الاستراتيجية الأميركي (Council on Strategic Risks) أن 90% من المضادات الحيوية المتداولة في الأسواق الأميركية تحتوي على مكونات مصدرها الصين، سواء بشكل مباشر أو عبر شركات هندية تعتمد على الموردين الصينيين.

وخلال جائحة كوفيد-19، عندما أغلقت المصانع في مقاطعة هوبي الصينية، شهدت الأسواق نقصاً حاداً في الأدوية الأساسية مثل الباراسيتامول والإيبوبروفين، ما كشف هشاشة النظام الدوائي العالمي أمام اضطرابات التصنيع الصينية، بحسب رويترز.

النتائج الاقتصادية والاستراتيجية

تُظهر هذه الهيمنة الصينية أن الولايات المتحدة تواجه تهديداً بنيوياً في سلاسل التوريد، لا يمكن تجاوزه عبر قرارات سياسية قصيرة الأمد. ووفقاً لتحليل معهد بروكينغز (Brookings Institution)، فإن بناء سلاسل توريد بديلة قد يستغرق من 7 إلى 10 سنوات، ويتطلب استثمارات تفوق 300 مليار دولار.

كما حذر تقرير صادر عن مؤسسة RAND للأبحاث الدفاعية من أن استمرار الوضع الراهن يمنح الصين قدرة على شلّ قطاعات كاملة من الاقتصاد الأميركي في حال نشوب نزاع سياسي أو عسكري.

في المقابل، تحاول واشنطن إطلاق مبادرات كبرى مثل قانون خفض التضخم (IRA) ومبادرة الرقائق والعلوم الأميركية (CHIPS Act) لتشجيع الاستثمار المحلي، لكن خبراء Bloomberg Economics يرون أن "الفجوة لا تزال واسعة"، وأن إعادة التوازن الكامل قد تتطلب عقداً كاملاً من السياسات الصناعية المتسقة.

من المعادن إلى الدواء، ومن الرقائق إلى البطاريات، استطاعت الصين بفضل استراتيجيتها الصناعية الممتدة لعقود أن تبني منظومة مترابطة تمنحها قوة ناعمة وصلبة في آنٍ معاً. ووفقاً لتقرير مركز الدراسات الآسيوية في جامعة هارفارد (Harvard Asia Center)، فإن “التحكم في الإنتاج هو أداة الجيل الجديد من القوة العالمية، وقد استخدمتها الصين بحذر ودهاء”.

ورغم الجهود الأميركية لتقليل الاعتماد على بكين، إلا أن الطريق نحو الاستقلال الصناعي الكامل لا يزال طويلاً ومكلفاً، بينما تبقى الصين اللاعب الوحيد القادر على قلب ميزان الاقتصاد العالمي بكلمة واحدة: التصدير.