Contact Us
أدب

الأدب في مواجهة العنف والحروب: كيف يصبح النص الأدبي وسيلةً للشفاء والتوثيق؟

ChatGPT Image Nov 2, 2025, 03_49_33 PM

حين يعجز الإنسان عن الكلام، تتكلم الكتابة. وفي مواجهة العنف والدمار، يصبح الأدب مساحةً يلتئم فيها الجرح الإنساني، ومكانًا يجد فيه الإنسان طريقه نحو الفهم والمواساة. فالكلمة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل وسيلة للنجاة من صدمة لا يمكن تفسيرها إلا بالكتابة.

في كل زمنٍ تهبّ فيه رياح الحروب، يولد الأدب من رحم الألم، لا بوصفه ترفًا ثقافيًا، بل ضرورةً وجودية. فالكاتب الذي يواجه الخراب لا يبحث عن الجمال بقدر ما يبحث عن المعنى، عن طريقةٍ لفهم ما حدث. من هنا، تتحول الرواية أو القصيدة إلى مساحةٍ نفسية للبوح، وإلى محاولة لترميم الذات المنكسرة عبر الحكاية.

يقول أحد النقاد المعاصرين إن الكتابة في زمن العنف تشبه الضمادة التي يضعها الجرح على نفسه. فالإنسان حين يكتب عن الخسارة أو الخوف، لا يوثّق ما جرى فقط، بل يبدأ رحلة التعافي من داخله. الكتابة تُعيد ترتيب الفوضى، تمنح الصدمة لغة، وتحوّل الألم إلى ذاكرة يمكن احتمالها.

يجد القارئ بدوره في النص الأدبي مرآةً لمشاعره التي عجز عن تسميتها. فحين يقرأ عن تجربة فقدٍ أو خوفٍ أو انتظار، يشعر أنه ليس وحيدًا في ألمه. بهذا المعنى، يصبح الأدب مساحة شفاء مشتركة بين الكاتب والقارئ، حيث تمتزج التجارب الفردية لتكوّن وعيًا إنسانيًا واحدًا.

كما يلعب الأدب دورًا مهمًا في التوثيق الإنساني للحروب والعنف، لا من منظور الأحداث، بل من منظور الإحساس. فالتاريخ الرسمي يسجّل الوقائع، بينما الأدب يسجّل المشاعر. يدوّن ما يحدث في الداخل: رعشة اليد، صمت الأم، وخوف الطفل. بهذه التفاصيل الصغيرة التي لا تلتقطها الكاميرات، يحتفظ الأدب بالوجه الإنساني للتجربة، فيتحول إلى أرشيف للذاكرة العاطفية للبشر.

اللافت أن كثيرًا من الدراسات النفسية الحديثة بدأت تنظر إلى الأدب كأداة علاجية. ما يُعرف اليوم بـ"العلاج بالكتابة" أو Bibliotherapy يُستخدم في بعض المراكز النفسية لمساعدة الأفراد على التعبير عن صدماتهم عبر الكتابة أو القراءة. فالنص الأدبي لا يقدّم إجابات مباشرة، لكنه يفتح أبواب التأمل والاعتراف، ويتيح للإنسان أن يواجه ذاته دون خوف.

وفي زمنٍ تتكاثر فيه صور العنف حولنا، يظل الأدب نوعًا من المقاومة الهادئة ، مقاومة للبلادة، وللنسيان، و الامبالاة. إن النص الإبداعي لا يغيّر الواقع المادي، لكنه يغيّر نظرتنا إليه. إنه يحافظ على الحسّ الإنساني، على القدرة على التعاطف، وعلى الإيمان بأن ما يجعل الإنسان إنسانًا هو قدرته على تحويل الألم إلى فنّ، والخسارة إلى معنى.

في النهاية، يمكن القول إن الأدب هو الذاكرة التي ترفض الصمت، والضمير الذي يذكّرنا بأن خلف كل مشهد من مشاهد العنف، هناك قلب خائف، ويد تبحث عن الأمل، وكلمة تحاول أن تُعيد للحياة ملامحها. فحين يكتب الإنسان عن الألم، لا يستسلم له، بل يحوّله إلى فعل حياة.