هكذا يلتهم التدخين جيوب الأفراد ويستنزف صحتهم

التدخين لم يعد مجرد عادة سيئة بل تحول إلى نزيف مالي وصحي يرهق الأفراد والمجتمعات على حد سواء إذ تشير منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر عام 2023 إلى أن التدخين يتسبب في وفاة أكثر من ثمانية ملايين شخص سنويا ويكلف الاقتصاد العالمي مئات المليارات من الدولارات نتيجة الإنفاق الصحي وفقدان الإنتاجية. هذا العبء المالي لا يقع على الحكومات فحسب بل يمتد إلى ميزانيات الأسر التي تنفق نسبا كبيرة من دخلها على شراء منتجات التبغ سواء كانت سجائر أو أرجيلة أو سيجار.
على الصعيد الاقتصادي أظهرت دراسة نشرت في مجلة Tobacco Control التابعة لمعهد الصحة العالمي في جامعة هارفارد عام 2022 أن التكلفة الإجمالية للأمراض المرتبطة بالتبغ بلغت نحو 1.4 تريليون دولار سنويا أي ما يعادل حوالي 1.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مما يعني أن التدخين يستهلك حصة ضخمة من الموارد الاقتصادية التي يمكن أن تُستثمر في قطاعات منتجة كالتعليم والتنمية والصحة العامة.
في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال قدّرت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها CDC في تقريرها لعام 2021 أن تكلفة التدخين السنوية تتجاوز 600 مليار دولار تشمل نفقات الرعاية الصحية المباشرة وفقدان الإنتاجية بسبب الوفاة المبكرة والأمراض المزمنة الناتجة عن التدخين وهو رقم يعكس حجم الخسارة الاقتصادية حتى في أكثر الاقتصادات تقدما.
أما على المستوى الفردي فإن الأرقام تكشف عبئا ماليا صادما إذ أظهرت دراسة صادرة عن البنك الدولي عام 2023 أن المدخن الذي يستهلك علبة سجائر يوميا بسعر وسطي قدره 8 دولارات ينفق سنويا نحو 2900 دولار أي ما يعادل رواتب شهرين إلى ثلاثة أشهر في العديد من الدول النامية وإذا تم احتساب الكلفة الطبية المترتبة على الأمراض الناتجة عن التدخين فإن العبء المالي الحقيقي يرتفع إلى أكثر من 5000 دولار سنويا للفرد الواحد.
تختلف أشكال التدخين في نمط الإنفاق لكنها تتقاطع في حجم الضرر الصحي فـ دراسة صادرة عن جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو عام 2022 أوضحت أن جلسة واحدة من الأرجيلة تعادل تدخين 100 سيجارة من حيث كمية المواد السامة المستنشقة الأمر الذي يجعلها أكثر خطورة مما يظنه كثيرون كما أشار تقرير منظمة الصحة العالمية حول التبغ في الشرق الأوسط إلى أن انتشار الأرجيلة بين الشباب في العالم العربي ارتفع بنسبة 45 بالمئة خلال العقد الأخير مما يعني تضاعف النفقات الأسرية على هذا النمط من التدخين بشكل واضح.
في المقابل يرى المعهد الوطني للصحة العامة في بريطانيا (NHS) أن تدخين السيجار والسيجاريللو وإن كان أقل تواترا من السجائر إلا أن تكلفته الصحية والمالية لا تقل خطورة إذ إن متوسط سعر السيجار الفاخر الواحد يتجاوز 15 دولارا ومع الاستهلاك المتكرر شهريا قد تصل النفقات السنوية إلى ما يقارب 1500 دولار إضافة إلى ارتفاع مخاطر الإصابة بسرطانات الفم والرئة.
وفي لبنان تحديدا تشير بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2022 إلى أن نسبة المدخنين بين البالغين تجاوزت 34 بالمئة وهي من الأعلى في المنطقة العربية مع معدل إنفاق شهري للفرد المدخن يتراوح بين 30 و70 دولارا وفق دراسة الجامعة الأميركية في بيروت المنشورة في مجلة Eastern Mediterranean Health Journal عام 2021 وهذا يعني أن الأسرة التي تضم أكثر من مدخن قد تنفق أكثر من 800 دولار سنويا على التبغ في بلد يعاني من ضغوط اقتصادية خانقة.
ولا تقتصر الكلفة على الجيوب فحسب بل تمتد إلى النظام الصحي حيث يقدّر البنك الدولي أن ما يقارب 8.7 بالمئة من إجمالي الإنفاق الصحي في العالم يُنفق على معالجة الأمراض الناتجة عن التدخين مثل أمراض القلب والرئة والسرطان وهي أمراض مزمنة تتطلب علاجا طويلا ومكلفا ما يزيد من الضغط على موازنات الدول خصوصا ذات الدخل المحدود.
إن التدخين إذن يشكل استنزافا مزدوجا للثروة والصحة فكل دولار يُصرف على التبغ هو استثمار ضائع في الألم والمرض وفق توصيات منظمة الصحة العالمية لعام 2023 فإن فرض ضرائب مرتفعة على منتجات التبغ يمكن أن يقلل نسب الاستهلاك بنسبة تتراوح بين 10 و20 بالمئة خلال خمس سنوات ويحقق عائدا ماليا يمكن توجيهه لتحسين الخدمات الصحية العامة.
وفي النهاية يظهر جليا أن التدخين ليس حرية شخصية بقدر ما هو قرار اقتصادي وصحي خاطئ يكلف الأفراد أموالهم ودولهم مواردها وصحتها وأن الإقلاع عنه ليس مكسبا صحيا فقط بل هو استثمار مالي في المستقبل وحياة أكثر استقرارا ورفاهية.