كيف غيّر الأدب الرقمي علاقة الإنسان بالنص؟

شهد الأدب تحوّلًا جذريًا في شكله ووسائل تداوله منذ ظهور شبكة الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي، فبينما كان النص الأدبي سابقًا حكرًا على الورق والمطبعة، أصبح اليوم يعيش في فضاء رقمي لا تحدّه الجغرافيا ولا الزمان. وفقًا لما يوضحه الباحث جاي ديفيد بولتر (Jay David Bolter, 2001) في كتابه Writing Space: Computers, Hypertext, and the Remediation of Print، فإن الكتابة الإلكترونية لم تعد مجرد وسيلة نقل جديدة للنصوص التقليدية، بل أصبحت بيئة إبداعية قائمة بحد ذاتها، تفتح مجالات جديدة للتفاعل بين الكاتب والقارئ.
لقد أتاح الأدب الرقمي للكاتب إمكانات لم تكن متوفّرة في الأدب الورقي. فبحسب دراسة إسبين آرسيث (Espen Aarseth, 1997) في كتابه Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature، فإن النصوص الرقمية تتطلّب من القارئ مشاركة فعّالة في تشكيل المعنى، عبر الروابط التشعبية (Hyperlinks) والتفاعل المباشر مع النص. وهكذا، لم يعد القارئ متلقّيًا سلبيًا، بل أصبح شريكًا في عملية الإبداع نفسها، حيث يمكنه التنقل بين المقاطع، أو إختيار مسار مختلف لقراءة القصة، مما يجعل كل تجربة قراءة فريدة.
من ناحية أخرى، يلفت الباحث نيلسون (Theodor Holm Nelson, 1965)، الذي إبتكر مفهوم "النص الفائق"، إلى أن الإنترنت غيّر مفهوم النص الأدبي من كيان ثابت إلى شبكة مترابطة من المعاني. وبفضل هذا التداخل بين النصوص، أصبح الأدب الرقمي مجالًا للتجريب والإبتكار، إذ يمزج بين الأدب والفنون البصرية والصوتية والبرمجة. وتعد الروايات التفاعلية، مثل مشروع Inanimate Alice (2005)، نموذجًا معاصرًا لهذا النوع، حيث تتكامل الصورة والموسيقى والنص في تجربة سردية رقمية متعددة الوسائط.
أما على مستوى القارئ، فقد أدى الإنتقال إلى الفضاء الإلكتروني إلى تغيّر العادات القرائية. فوفقًا لدراسة ماريان وولف (Maryanne Wolf, 2018) في كتابها Reader, Come Home، فإن القراءة الرقمية تُحدث نوعًا من "التشتت المعرفي" بسبب الإنتقال السريع بين الصفحات والروابط، مما يقلل من التركيز العميق الذي تتطلّبه القراءة الأدبية التقليدية. ومع ذلك، يرى باحثون آخرون مثل هنري جنكينز (Henry Jenkins, 2006) في كتابه Convergence Culture أن هذا النمط الجديد من القراءة يعزز التفاعل الجماعي، ويُنتج ثقافة مشاركة تتجاوز حدود النص الواحد.
منح الإنترنت الأدباء أدوات جديدة للنشر والتجريب، فكما أشار جورج لاندو (George Landow, 2006) في دراسته Hypertext 3.0، فإن الوسائط الرقمية سمحت بظهور كُتّاب مستقلين خارج نظام دور النشر التقليدي، مما جعل الأدب أكثر ديمقراطية وإنفتاحًا. واليوم، نجد آلاف الكتّاب الشباب ينشرون أعمالهم عبر المدونات، والمنصات الرقمية مثل Wattpad وMedium، ويصلون مباشرة إلى جمهور عالمي دون وسيط.
لكن هذا التحوّل لا يخلو من تحديات، فمع تزايد الإنتاج الرقمي يواجه الأدب خطر الضياع في بحر من المحتوى السطحي، كما نبّهت الباحثة ناتالي هاينريش (Nathalie Heinich, 2019) في دراستها حول الثقافة الرقمية. كما أن مفهوم “الأصالة” في النص الأدبي أصبح أكثر غموضًا مع سهولة النسخ وإعادة التدوير الرقمي للنصوص.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الأدب الرقمي أعاد تعريف العلاقة بين الإنسان والكلمة. فبدل أن يكون الأدب مجرد سجلٍ مكتوب للتجربة الإنسانية، أصبح فضاءً تفاعليًا حيًا يتطوّر باستمرار. وكما يقول بولتر (Bolter, 2001)، فإن "التقنية لا تقتل الأدب، بل تعيد خلقه".