Contact Us
اقتصاد

انهيار العدالة الاقتصادية في لبنان: فقر متصاعد وفرص ضائعة

67163d50-be87-4fb7-8f9d-059de93e5d9d

في خضم الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعصف ببلدنا، تبرز قضية العدالة الاقتصادية كمأزق مركزي يهدد ليس فقط النمو المالي، إنما النسيج الاجتماعي ذاته يُظهر تقرير حديث صادر عن World Bank أن نسبة الفقر في لبنان ارتفعت إلى حوالي 44 % من السكان في عام 2022، بعدما كانت أقل بكثير قبل الأزمة، ما يشكل أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل عقد تقريباً.

هذا الرقم الهائل ليس مجرد إحصاء يجذب الانتباه، بل يُرسم مشهداً يعيش فيه ما يقارب نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، دون احتساب أولئك المتضررين بعمق من تردٍّ في الخدمات العامة والفرص الاقتصادية.

يبقى جانب بطالة الشباب من أشد مظاهر الأزمة وضوحاً: فقد ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة إلى نحو 47.8 % في عام 2022.  هذه النسبة تمثل تضخماً لافتاً مقارنة بما كانت عليه من قبل، ما يعني أن الجيل الصاعد لم يعد يجد موطئاً آمناً في سوق العمل، الأمر الذي يبشر بخطر اجتماعي طويل الأمد إن لم تتضافر جهود الاستجابة.

وعلى صعيد توزيع الدخل والثروة، يكشف تحليل لبيانات World Inequality Lab أن الفوارق في لبنان من بين الأعلى عالمياً: ففي الفترة الممتدة بين 2005 و2014، حصل الـ10 % الأثرياء على حوالي 55 % من الدخل الوطني، بينما حصلت فئة الـ50 % الأدنى دخلاً على ما بين 12 و14 % فقط.  وهذه الأرقام تشير إلى بنية اقتصادية متآكلة، حيث يجد أغلب اللبنانيين أنفسهم خارج دائرة المنافع الحقيقية لنمو الاقتصاد – إن وُجد نمو أصلاً – بينما تستفيد النخبة القليلة من عوائد النظام القائم.

في سياق النمو الاقتصادي، يُشير تقرير سنة 2024 إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد انخفض بنسبة 36.5 % بين عامي 2019 و2021، ما دفع البنك الدولي إلى إعادة تصنيف لبنان من دولة "دَخل متوسط ­أعلى" إلى "دَخل متوسط ­أدنى".  هذا الانخفاض ليس مجرد رقم بل يعكس انهياراً شبه كامل للنمو وامتداداً لخسائر تراكمت عبر النظام المصرفي، المالي، وشبكة الخدمات الاجتماعية.

لا يمكن الحديث عن هذه الأرقام في فراغ، فثمّة سياق سياسي واجتماعي يغذّيها: لقد أصدرت (الإسكوا) تحليلاً أكد أن اللبنانيين يرون أن الفساد والمحسوبية هما من أبرز أسباب التفاوت الاقتصادي والاجتماعي المزمن.  هذا الاعتقاد المتعمّق يوضح أن المشكلة ليست فقط في الأرقام، بل أيضاً في كيفية توزيع الفرص وقواعد اللعبة الاقتصادية نفسها.

من وجهة نظر إجتماعية، إن ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة وفجوة التوزيع يشكّل مقوّماً رئيسياً لعدم الاستقرار، ويولد إحساساً عميقاً بالغبن بين فئات كبيرة من المواطنين الذين يشعرون بأن اقتصادهم لا يعمل من أجلهم. وبحسب تقرير لـ Human Rights Watch، يعيش نحو 73 % من اللبنانيين في فقر متعدد الأبعاد (يشمل نقص الخدمات الأساسية كالطاقة والرعاية الصحية والتعليم) مقارنة مع 44 % حسب المؤشر النقدي، ما يبيّن أن الأثر الحقيقي للأزمة أوسع بكثير مما تبدو عليه الأرقام الرسمية.

وعلى ضوء هذه المعطيات، يبرز جلياً أن الحلّ لا يكمن في مجرد دعم نُقودي أو إعانات مؤقتة، بل في إصلاحات هيكلية شاملة: تشمل تحسين الحوكمة، وتحفيز الاستثمار في القطاعات المنتجة، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام نحو التعليم، الصحة، والبنية التحتية. كما أن دعم الشباب وحشد طاقاتهم – سواء عبر التعليم المهني أو ريادة الأعمال أو إدماجهم في سوق العمل – ضرورة لا تحتمل التأجيل.

في الختام، يمكن القول إن لبنان يمرّ بمأزق ليس مجرد اقتصادي بل وجودي، فمتى ما استمرّت البطالة، وتفاقمت الفوارق، وضاع الأمل بين جيل الشباب، فإن ما نشهده ليس انهيار اقتصاد فحسب، بل انهيار لعقد اجتماعي بين الدولة ومواطنيها. ويستلزم هذا الواقع انتفاضة سياسية واجتماعية متزامنة – لا في الشارع فقط، بل في الذهنية المؤسساتية والاقتصادية – لإعادة بناء اقتصاد العدل، ليس اقتصاد المزاحمة والبقاء، وإنما اقتصاد الفرص للكل.

شارك المقال