الذكاء الاصطناعي يبتلع الصناعة الأميركية ويهدد حلم ترامب بالنهضة الصناعية

يشكّل الازدهار المتسارع في قطاع الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات تحولًا اقتصاديًا ضخمًا في الولايات المتحدة، لكنه يهدد في الوقت نفسه وعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإحياء التصنيع التقليدي. ويبرز مصنع جنرال موتورز السابق في لوردستاون بولاية أوهايو كنموذج رمزي لهذا التحول، إذ كان ترامب قد وعد في تجمعٍ عام 2017 بإعادة الحياة إلى مصانع المنطقة قائلاً: "لا تبيعوا منازلكم، فالوظائف ستعود والمصانع ستمتلئ من جديد." وفق ما ذكرت بلومبيرغ.
غير أن الشركة أغلقت المصنع بعد عامين فقط، ثم استحوذت عليه شركة ناشئة لصناعة السيارات الكهربائية قبل أن تُفلس عام 2023. واليوم، تعتزم شركات التكنولوجيا العملاقة فوكسكون، وأوبن إيه آي، وسوفت بنك، إعادة استخدام المنشأة البالغة مساحتها 6.2 ملايين قدم مربعة كمركز لتصنيع معدات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب إنشاء مركز بيانات تجريبي في الموقع نفسه.
وفقاً لبلومبيرغ، هذا التحول يرمز إلى انتقال الطفرة التكنولوجية نحو قلب الصناعة الأمريكية، إذ أصبحت الاستثمارات في البرمجيات وتصنيع الرقاقات ومراكز البيانات هي الدافع الأكبر للنمو الاقتصادي. لكنه يثير تساؤلات حول ما إذا كان الحماس الكبير للذكاء الاصطناعي، الذي يدعمه ترامب بقوة، قد يُعرقل هدفه الأساسي في جعل أميركا عظيمة في التصنيع مجددًا، خاصة في قطاعات السيارات والصلب والأثاث. فالعوامل الثلاثة الحاسمة لأي مشروع صناعي – رأس المال والطاقة والعمالة – أصبحت جميعها متركزة في مشاريع الذكاء الاصطناعي.
يقول جون إنجل، المدير التنفيذي لشركة Wesco International لتوزيع المعدات الكهربائية، إن "الذكاء الاصطناعي يستهلك معظم الأوكسجين في الغرفة... إنه مصدر النمو الرئيسي الآن، ومن لا يشارك في هذا الاتجاه، فإنه يفوّت الفرصة."
بحسب بلومبيرغ، يُقارن المحللون هذه الطفرة الاستثمارية في الذكاء الاصطناعي بموجات تاريخية سابقة مثل بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر وطفرة شبكات الألياف البصرية والاتصالات اللاسلكية في التسعينيات. وتشير تقديرات بلومبيرغ إيكونوميكس إلى أن الاستثمارات في بنية الذكاء الاصطناعي التحتية قد تصل إلى 4 تريليونات دولار بحلول عام 2030.
لكن هذا الاندفاع يخفي ضعفًا واضحًا في قطاعات أخرى، إذ لا يظهر قطاع التصنيع التقليدي أي مؤشرات انتعاش، بينما تبقى أرقام التوظيف مقلقة وثقة المستهلك في أدنى مستوياتها منذ الأزمة المالية الكبرى. وتقدّر مؤسسة Pantheon Macroeconomics أنه لولا الإنفاق الضخم على مشاريع الذكاء الاصطناعي وارتفاع قيمة أسهم شركات التكنولوجيا، لكان نمو الناتج المحلي الأميركي في النصف الأول من 2025 لم يتجاوز 1% بدلًا من 1.6%.
وتتوقع "بلومبيرغ إيكونوميكس" أن يرتفع مساهمة الذكاء الاصطناعي في النمو الاقتصادي إلى 1.5 نقطة مئوية عام 2026 مع ازدياد استثمارات شركات التكنولوجيا العملاقة – مثل غوغل وأمازون وميتا ومايكروسوفت – من 400 مليار دولار إلى 600 مليار دولار سنويًا. وتقول ريبيكا باترسون، كبيرة الاستراتيجيين السابقة في صندوق "بريدجووتر"، إن "الاقتصاد الأميركي لولا الذكاء الاصطناعي كان سيواجه تباطؤًا حادًا أو حتى ركودًا خفيفًا."
من جانبه، تبنى ترامب الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعزيز تنافسية الاقتصاد الأميركي والأمن القومي. فقد أصدرت إدارته خطة عمل وطنية للذكاء الاصطناعي في تموز/ يوليو، واستضاف الرئيس عشاءً في أيلول/ سبتمبر جمع قادة شركات مثل Alphabet وMeta وMicrosoft وOpenAI. كما يروّج لمشروع Stargate بقيمة 500 مليار دولار بين OpenAI وOracle وSoftBank لبناء شبكة ضخمة من مراكز البيانات والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك لوردستاون.
ومع ذلك، لا توجد مؤشرات كافية على أن ترامب يفي بوعده بإعادة النهضة الصناعية. فقد تراجع النشاط الصناعي لمدة سبعة أشهر متتالية حتى أيلول/ سبتمبر، وتسببت الرسوم الجمركية المتقلبة، وتقييد الهجرة، وتقليص دعم الطاقة النظيفة في خلق حالة من عدم اليقين تعيق الاستثمارات. وتشير البيانات إلى أن الإنفاق على بناء المصانع الجديدة انخفض بنسبة 2.5% هذا العام، بينما ارتفع الإنفاق على مراكز البيانات بنسبة 18%.
ذكرت بلومبيرغ أن بول كيدروسكي يحذر، وهو باحث في MIT Initiative on the Digital Economy، من أن "نشوة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي جعلت ترامب ومستشاريه يتجاهلون الآثار السلبية لسياساتهم على بقية الاقتصاد." ويضيف أن "هذا التوسع ضخم لدرجة أنه كسر النماذج التقليدية لفهم الاقتصاد، وجعل صناع القرار يرتكبون أخطاء فادحة."
في المقابل، حصلت شركات التكنولوجيا الكبرى على إعفاءات واسعة من الرسوم الجمركية على الخوادم والمعدات الخاصة بمراكز البيانات، في حين رفضت الإدارة منح المصنعين المحليين إعفاءات مشابهة على المعدات الصناعية. كما فتحت وزارة التجارة في سبتمبر تحقيقًا بشأن استيراد الروبوتات والآلات الصناعية، يُتوقع أن يؤدي إلى فرض رسوم جديدة، ما يزيد من تعقيد إعادة توطين الإنتاج داخل الولايات المتحدة.
ووفقًا لتقديرات الرابطة الوطنية للمصنعين (NAM)، تمثل رسوم ترامب الجمركية أكبر زيادة ضريبية على الشركات الأميركية منذ التسعينيات. ومن المتوقع أن تكلف هذه الرسوم شركة كاتربيلر نحو 1.8 مليار دولار هذا العام، وجنرال موتورز حوالي 4.5 مليار دولار. كما فقد قطاع التصنيع 42 ألف وظيفة منذ نيسان/ أبريل 2025، في أطول موجة خسائر منذ جائحة كورونا.
ورغم ذلك، استفادت بعض قطاعات الصناعة من طفرة الذكاء الاصطناعي، إذ أدت زيادة الطلب على الطاقة إلى استثمارات جديدة في التوربينات الغازية، وارتفع الطلب على المعدات الكهربائية مع ازدياد بناء مراكز البيانات. فقد أعلنت شركة Eaton Corp. عن ارتفاع طلبات مراكز البيانات بنسبة 55% في الربع الثاني من 2025 مقارنة بالعام السابق.
ويرى محللون أن هذه التحولات قد تُثمر لاحقًا عن زيادة في إنتاجية المصانع الأميركية عبر الأتمتة والروبوتات الذكية، رغم أن هذا التحول يحتاج وقتًا. ويقول أمير بول، رئيس عمليات Schneider Electric في أميركا الشمالية: “لكي تكون الصناعات في الولايات المتحدة قادرة على المنافسة، يجب أن يرتفع مستوى الأتمتة بشكل كبير.” وفقاً لبلومبيرغ.
في المقابل، خلقت الطفرة في بناء مراكز البيانات فرص عمل ضخمة في قطاع البناء والكهرباء واللحام، إلا أن نقص العمال المهرة يعرقل هذا النمو. وتشير بيانات جمعية المقاولين والبنّائين الأميركيين (ABC) إلى أن الولايات المتحدة تعاني عجزًا يقدّر بـ439 ألف عامل بناء هذا العام، بينما يعمل واحد من كل خمسة من أعضاء الجمعية على مشاريع مراكز بيانات.
ويحذر جون فيش، المدير التنفيذي لشركة Suffolk Construction التي تبني أكثر من 30 مركز بيانات في ثماني ولايات، من أن “الاقتصاد الأمريكي يتجه نحو أزمة في القوى العاملة التقنية إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة.”
ولا يقتصر الضغط على العمالة فقط، فـالطلب الهائل على الكهرباء من مراكز البيانات بدأ يرهق شبكات الطاقة ويرفع فواتير الكهرباء للمنازل والمصانع. ففي المناطق القريبة من هذه المراكز، ارتفعت أسعار الكهرباء بالجملة بنسبة تصل إلى 267% خلال السنوات الخمس الماضية، وفق تحليل بلومبرغ. وتشير الوكالة الدولية للطاقة (IEA) إلى أن مركز بيانات واحد يستهلك طاقة توازي 100 ألف منزل، بينما المراكز العملاقة قيد الإنشاء قد تستهلك 20 ضعف هذا المقدار. وتتوقع "بلومبرغ إنتليجنس" أن تشكل مراكز البيانات 20% من الطلب على الكهرباء في أميركا بحلول 2032.
ويخشى الاقتصاديون أن يؤدي الاندفاع الهائل نحو مشاريع الذكاء الاصطناعي إلى حرمان قطاعات أخرى من الاستثمارات. وتقول شركة ABB السويسرية، التي باعت قسم الروبوتات الصناعية إلى سوفت بنك مقابل 5 مليارات دولار للتركيز على أعمال مراكز البيانات، إن عوائد بناء هذه المراكز تفوق بكثير المشاريع الصناعية الأخرى في ظل ارتفاع تكاليف العمالة والرسوم الجمركية.
ومع ذلك، يرى خبراء الصناعة أن مواجهة تحديات العمالة والطاقة قد تدفع نحو ابتكارات جديدة في البناء والتصنيع، مثل الاعتماد على التركيبات الجاهزة للمباني أو توليد الكهرباء محليًا في المصانع. وتستثمر شركات التكنولوجيا الكبرى في أبحاث لتقنيات تبريد وتوفير طاقة أكثر كفاءة، مثل النظام الذي كشفت عنه مايكروسوفت في أيلول/ سبتمبر لتبريد رقاقات الذكاء الاصطناعي.
وفي نهاية المطاف، يشكل مصنع لوردستاون اختبارًا حقيقيًا لما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحقيق فوائد اقتصادية تماثل الصناعات التقليدية. فقد أعلنت فوكسكون في آب/ أغسطس عن بيع المنشأة إلى سوفت بنك مقابل 375 مليون دولار، على أن تبدأ الشركتان في تصنيع معدات مراكز البيانات في الموقع نفسه الذي كان يُنتج سيارات شيفروليه إمبالا.
وسيبدأ المشروع المشترك بين سوفت بنك وفوكسكون العمل في عام 2026، ويوظف نحو 1,600 عامل من بينهم 400 موظف حاليًا، وفق مسؤولين في مقاطعة ترمبل. ومع أن ذلك يوفر دفعة اقتصادية للمنطقة التي فقدت 40% من وظائفها الصناعية خلال العقدين الماضيين، إلا أن الأعداد تبقى بعيدة عن ذروة المصنع حين كان يضم 12 ألف عامل.
وبحسب بلومبيرغ، بينما يرحب البعض بهذه الخطوة، يبدي آخرون قلقهم من أن تتحول موجة الذكاء الاصطناعي إلى فقاعة جديدة. ويقول عمدة لوردستاون السابق، آرنو هيل: “يقولون إن الذكاء الاصطناعي هو موجة المستقبل، لكن هل سيتشبع هذا السوق في النهاية؟ الناس سيظلون بحاجة إلى السيارات.”