تراجع الإستثمارات الأجنبية يهدد وتيرة النمو في الشرق الأوسط

شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة تقلبات واضحة في تدفقات الإستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما أكّده تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) لعام 2025، الذي أشار إلى أن حصة المنطقة من الإستثمارات العالمية تراجعت بشكل نسبي مقارنة بدول آسيا وأميركا اللاتينية، رغم النمو الطفيف في إجمالي التدفقات العالمية.
وأوضح التقرير أن التفاوت بين دول المنطقة كبير، حيث حققت بعض الدول كالإمارات زيادة ملحوظة في تدفقات الإستثمار، بينما شهدت دول أخرى تراجعًا حادًا نتيجة عوامل سياسية وإقتصادية معقّدة.
ويُرجح تقرير صندوق النقد الدولي (IMF) للتوقعات الإقتصادية الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أيار/مايو 2025 هذا التراجع إلى مزيج من العوامل، في مقدمتها الإضطرابات الجيوسياسية التي ألقت بظلالها على ثقة المستثمرين، خصوصًا بعد تصاعد التوترات الأمنية في بعض بؤر النزاع بالمنطقة.
ويؤكد التقرير أن تكرار الأزمات السياسية والحروب القصيرة أو الممتدة، مثل النزاع في غزة وعدم الإستقرار في بعض دول شمال إفريقيا، أدى إلى زيادة كلفة التأمين على الإستثمارات وإرتفاع مستوى المخاطر المدركة لدى المستثمرين الأجانب، ما جعل رأس المال الأجنبي أكثر تحفظًا تجاه المنطقة.
أما العامل الثاني المهم، فيتمثّل في تقلبات أسعار النفط، التي تشكّل عنصرًا أساسيًا في إقتصادات العديد من دول الشرق الأوسط. فبحسب بيانات وكالة رويترز الإقتصادية في الربع الأول من عام 2025، شهدت بعض الدول النفطية الخليجية تقلّبات في صافي تدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر، نتيجة تغيّر توقعات العائدات النفطية وتباين سياسات الإنفاق الحكومي. في السعودية مثلًا، ورغم استمرار مشاريع "رؤية 2030" لجذب رؤوس الأموال في قطاعات غير نفطية، أظهرت البيانات الرسمية تقلبًا في حجم التدفقات ربعًا بعد آخر، إذ بلغ صافي الإستثمار الأجنبي نحو 7.3 مليارات دولار في الربع الأول من 2025 مقارنة بـ10.2 مليارات في نفس الفترة من 2024، وفق ما نقلته رويترز عن وزارة الاستثمار السعودية.
ويُضاف إلى ذلك تأثير تشديد السياسة النقدية العالمية، حيث أوضح البنك الدولي في تقريره حول آفاق الاقتصاد العالمي حزيران/يونيو 2025 أن إرتفاع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا منذ 2022 جعل تكلفة التمويل الدولي أعلى، وهو ما دفع المستثمرين إلى تفضيل الإقتصادات المتقدمة أو الأسواق المستقرة ذات المخاطر المنخفضة. هذا العامل إنعكس سلبًا على الإقتصادات النامية، ومن بينها دول الشرق الأوسط التي تعتمد بشكل كبير على تدفقات الإستثمار الخارجي كمصدر للنمو.
كما برزت في السنوات الأخيرة سياسات تجزئة سلاسل الإمداد العالمية نتيجة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وإزدياد القيود التكنولوجية، ما دفع الشركات الكبرى إلى إعادة تموضع إستثماراتها باتجاه الأسواق الأقرب جغرافيًا أو سياسيًا لحلفائها.
ووفقًا لتقرير UNCTAD لعام 2024 حول الإستثمار العالمي، فإن هذا الإتجاه الجديد قلّص نصيب الشرق الأوسط من المشاريع الصناعية الجديدة، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والإلكترونيات التي كانت تستقطبها بعض الدول الخليجية سابقًا.
من جهة أخرى، تواجه بعض الدول العربية تحديات داخلية مزمنة تتعلق بـ بيئة الأعمال وضعف الشفافية. فوفقًا لتحليل قانوني نشرته شركة White & Case للإستشارات في شباط/فبراير 2025، فإن البيروقراطية، وتعقيد القوانين التجارية، وتفاوت تطبيق الأنظمة بين الجهات الرسمية، تضعف ثقة المستثمرين الأجانب وتجعل بيئة الإستثمار غير مستقرة.
ويُضاف إلى ذلك بطء الإصلاحات التشريعية في بعض الدول وضعف الحوكمة، ما يؤدي إلى فقدان فرص لصالح دول أكثر تنافسية مثل الإمارات وقطر والمغرب.
أما على صعيد التأثيرات الاقتصادية، فيوضح تقرير البنك الدولي (تحديث الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تموز/يوليو 2025) أن إنخفاض تدفقات الإستثمارات الأجنبية يؤدي مباشرة إلى تباطؤ النمو الإقتصادي بسبب تراجع تكوين رأس المال الثابت وإنخفاض حجم المشروعات الكبرى في البنية التحتية والطاقة والصناعة. كما يحدّ هذا التراجع من قدرة الحكومات على خلق وظائف جديدة، إذ إن الإستثمارات الأجنبية تُعدّ من أهم محركات التوظيف ونقل التكنولوجيا والمعرفة إلى الإقتصادات المحلية.
وبحسب صندوق النقد الدولي تقرير REO 2025، فإن تراجع الإستثمارات الأجنبية يؤدي كذلك إلى ضغوط على الموازين الخارجية للدول المستوردة للطاقة مثل مصر والأردن وتونس، حيث تساهم هذه التدفقات عادة في تمويل العجز في الحساب الجاري، وبالتالي فإن إنخفاضها يفرض ضغوطًا على إحتياطيات النقد الأجنبي وسعر صرف العملة، وهو ما يدفع الحكومات إلى إتخاذ إجراءات تقشفية أو طلب دعم خارجي.
أما في دراسة حالة الإمارات العربية المتحدة، فقد أظهرت البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الإقتصاد، والتي نقلتها وكالة بلومبيرغ في آب/أغسطس 2025، أن الدولة سجلت زيادة بنسبة 35٪ في تدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر عام 2024 لتصل إلى أكثر من 30 مليار دولار، مدفوعة بسياسات الإنفتاح الإقتصادي وتسهيلات الترخيص وتحديث القوانين التجارية. في المقابل، تُعدّ مصر حالة مختلفة، إذ إستقطبت مليارات الدولارات من رؤوس الأموال الخليجية في صورة استحواذات على أصول ومشاريع بنية تحتية، وفق تقرير وكالة رويترز في تموز/يوليو 2025، إلا أن جزءًا كبيرًا منها صُنّف على أنه "صفقات مالية قصيرة الأجل" وليس إستثمارات إنتاجية مستدامة.
كل ذلك يوضح أن تراجع الإستثمارات الأجنبية المباشرة في الشرق الأوسط ليس مجرد ظاهرة دورية مرتبطة بالأزمات العالمية، بل هو نتاج تراكمي لعوامل متشابكة تشمل المخاطر الجيوسياسية، تقلبات أسواق الطاقة، بطء الإصلاحات المؤسسية، وسياسات التمويل العالمية.
وتشير توصيات الأمم المتحدة والبنك الدولي إلى أن الحل يكمن في إصلاح بيئة الأعمال الداخلية عبر تعزيز الشفافية، تحسين النظام القضائي التجاري، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية. كما تدعو إلى توجيه الحوافز نحو جذب الاستثمارات النوعية في التكنولوجيا والطاقة المتجددة والتعليم والصناعات ذات القيمة المضافة، بدلًا من التركيز فقط على تدفقات رأس المال قصيرة الأجل.
إن الشرق الأوسط يقف اليوم أمام مفترق طرق اقتصادي حقيقي: فإما أن يستفيد من خبرات دول نجحت في تحويل الاستثمار الأجنبي إلى أداة للنمو المستدام كما فعلت الإمارات والمغرب، أو أن يستمر في مواجهة دورات من الانتعاش المؤقت والتراجع الحاد. وتبقى الإصلاحات الاقتصادية العميقة والاستقرار السياسي هما الركيزتان الأساسيتان لاستعادة ثقة المستثمرين وتحقيق تنمية متوازنة وشاملة في السنوات المقبلة.
