صادرات المليار دولار يومياً... ورقة الصين القوية في وجه ترمب

رغم مرور أكثر من ستة أشهر على اندلاع الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضد الصين، تُظهر الأرقام أن صادرات بكين ما زالت صامدة، بل تشكّل ركيزة يصعب على الاقتصاد الأميركي الاستغناء عنها. فبحسب تقرير حديث نشرته بلومبيرغ، تعبر المحيط الهادئ يوميًا نحو مليار دولار من السلع الصينية باتجاه الولايات المتحدة، وهي وتيرة لم تتراجع بل سجّلت ارتفاعًا في شهر أيلول/سبتمبر مقارنة بآب/أغسطس، رغم الرسوم الأميركية البالغة 55% المفروضة على تلك الواردات.
وحسب بلومبيرغ، هذه الأرقام تكشف أن إجراءات ترمب لم تنجح في كبح اعتماد الشركات الأميركية على المنتجات الصينية، خصوصًا في قطاعات حيوية مثل الإلكترونيات والمعادن النادرة. فالصين، التي تُعد القلب النابض لسلاسل الإمداد العالمية، ما زالت تمسك بخيوط كثيرة تجعل من منتجاتها شبه مستحيلة الإزاحة في المدى المنظور. ويؤكد اقتصاديان من بلومبيرغ، تشانغ شو وديفيد كو، أن “إعادة هيكلة الإنتاج العالمي ستستغرق وقتًا طويلًا، ما يمنح بكين قوة تفاوضية مع المستوردين الأميركيين في المدى القريب”.
هذا الواقع يعزّز موقف الرئيس الصيني شي جين بينغ قبيل استئناف المفاوضات التجارية الرامية إلى تمديد الهدنة الجمركية المؤقتة التي تنتهي في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. ففي الربع الثالث من العام الحالي وحده، بلغت قيمة السلع الصينية التي دخلت السوق الأميركية أكثر من 100 مليار دولار، ما ساعد بكين في الحفاظ على وتيرة النمو الاقتصادي ضمن أهدافها السنوية، ورفع الفائض التجاري الثنائي إلى 67 مليار دولار.
في المقابل، عبّر ترمب الثلاثاء الماضي عن تفاؤله حيال اجتماع مرتقب مع نظيره الصيني، متوقعًا التوصل إلى “صفقة جيدة”، لكنه أقرّ بأن اللقاء الذي يُنتظر عقده الأسبوع المقبل على هامش قمة في كوريا الجنوبية “قد ينهار في اللحظة الأخيرة”. وحدّد ترمب ثلاثة ملفات رئيسية على جدول أعماله مع الصين: المعادن النادرة، والفنتانيل، وفول الصويا.
لكن العلاقات الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم تتجاوز هذه الملفات الحساسة. إذ تواصل الصين تزويد السوق الأميركية بمنتجات حيوية في الصناعة والطب والتكنولوجيا. فعلى الرغم من تراجع معظم الصادرات العشرة الأولى إلى الولايات المتحدة خلال الربع الثالث مقارنة بالعام الماضي، شهدت صادرات السجائر الإلكترونية ارتفاعًا ملحوظًا، كما ارتفعت صادرات الدراجات الكهربائية إلى أكثر من 500 مليون دولار في الأشهر الثلاثة المنتهية في سبتمبر، بزيادة طفيفة عن العام الماضي.
كذلك قفزت صادرات النحاس المكرّر من مستويات شبه معدومة إلى 270 مليون دولار خلال الربع نفسه، وارتفعت صادرات الأسلاك الكهربائية بنسبة 87% لتبلغ 405 ملايين دولار.
ويرى الخبير الاقتصادي تشاو بنغ شينغ من مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية أن “الاعتماد المتبادل بين البلدين قد يتراجع، لكنه لا يمكن أن يصل إلى الصفر”، مضيفًا أن “كلا الطرفين ما زالا بحاجة إلى بعضهما في قطاعات محددة”.
إلا أن بعض الشقوق بدأت تظهر في “جدار ترمب الجمركي”، ما أتاح استمرار جزء من التدفقات التجارية. فبحسب شينغ، يستطيع المستوردون الأميركيون تقليل الرسوم الجمركية من خلال إعلان القيمة الجمركية للسلع بناءً على عملية البيع الأولى في بلد ثالث، ثم رفع السعر عند وصول الشحنة إلى الموانئ الأميركية. كما أن إعادة الشحن عبر المكسيك أو فيتنام تتيح لبعض الشركات التهرّب من دفع كامل الرسوم المفروضة. ويضيف شينغ: “هناك الكثير من الثغرات، والجمارك الأميركية لا تملك ما يكفي من الكوادر لمعالجتها”.
وخلال الربع الممتد من تموز/يوليو إلى أيلول/سبتمبر، صدّرت الشركات الصينية إلى الولايات المتحدة ما يقرب من 8 مليارات دولار من الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والألواح الإلكترونية وقطعها. ورغم أن هذا الرقم يعادل أقل من نصف الكمية المصدّرة في الفترة نفسها من العام الماضي، فإنه يظل رقمًا كبيرًا بالنظر إلى ارتفاع الرسوم الجمركية.
أما في سوق التجارة الإلكترونية، فبرغم إلغاء قاعدة “الحد الأدنى” التي كانت تسمح بدخول الطرود الصغيرة إلى الولايات المتحدة من دون رسوم، واصل المستهلك الأميركي شراء مليارات الدولارات من السلع عبر منصات مثل Shein Group Ltd. وPDD Holdings Inc.’s Temu. وبحسب بيانات صينية، بلغت قيمة الطرود الصغيرة المرسلة إلى الولايات المتحدة منذ أيار/مايو نحو 5.4 مليارات دولار، رغم فرض رسوم بنسبة 54% بعد إغلاق الثغرة من قبل إدارة ترمب.
كما قفزت صادرات التجارة الإلكترونية بين الشركات (B2B) إلى 201 مليون دولار في أيلول/سبتمبر، ارتفاعًا من نحو 31 مليونًا فقط في آب/أغسطس، في ما يُعتقد أنه تحول استراتيجي من البيع المباشر للمستهلك الأميركي إلى الشحن بالجملة ثم التوزيع محليًا داخل الولايات المتحدة.
ورغم كل هذا الزخم، يبدو أن البلدين يتجهان نحو مرحلة من الانفصال التجاري التدريجي. فترمب يسعى إلى إعادة الصناعات الحيوية إلى الداخل الأميركي، خصوصًا في مجالات التصنيع والتكنولوجيا، ما خفّض حجم الواردات الأميركية من الصين هذا العام إلى أقل من 320 مليار دولار — أي إلى المستوى نفسه تقريبًا لعام 2017، قبل اندلاع الحرب التجارية الأولى.
وقد شهدت صادرات أجهزة الألعاب الإلكترونية انهيارًا شبه كامل، بعدما قرّرت شركات مثل Nintendo Co. وMicrosoft Corp. تحويل خطوط الإمداد إلى فيتنام ودول أخرى لتجنّب الرسوم المرتفعة. كذلك تراجعت صادرات شاشات التلفزيون LCD إلى السوق الأميركية بنسبة 73% خلال الربع الماضي، مع توجه المستهلكين الأميركيين نحو بدائل من دول أخرى.
أما في مجال السفن التجارية، فقد كانت واشنطن قد سبقت في الانفصال، بعدما فرضت رسوماً على السفن المصنّعة في الصين قبل سنوات.
ورغم متانة بعض المؤشرات، تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الضرر اللاحق بالتجارة الثنائية هذا العام يفوق ما شهدته فترة ترمب الأولى، إذ جاء في تقريره الأخير أن “الانفصال التجاري بين الولايات المتحدة والصين يحدث بوتيرة أسرع مقارنة بصدمة الرسوم الجمركية في 2018–2019”.
هكذا، وبينما يتحدث ترمب عن “صفقة جيدة” ويستعد شي جين بينغ لمواجهة تفاوضية جديدة، يبدو أن ميزان القوة في الحرب التجارية لا يزال متأرجحًا، لكن الصين أثبتت حتى الآن أنها قادرة على تحويل العقوبات إلى أوراق ضغط جديدة — بمعدل مليار دولار يوميًا.
