Contact Us
أدب

الأدب العربي الحديث بين الإبداع والثروة الثقافية

2EE7D3FB-0C7F-44DA-9AA0-4D82BC991EE6

يشكّل الأدب العربي الحديث أحد أعمدة الهوية الثقافية في العالم العربي، غير أنّ مكانته الفكرية والإبداعية لم تُترجم بعد إلى مردود اقتصادي فعلي يعكس حجم الإبداع العربي الممتد من الخليج إلى المحيط. فقد أظهرت الدراسات الحديثة أنّ الفجوة بين الإمكانات الأدبية والجدوى الاقتصادية ما تزال واسعة، في وقتٍ تتنامى فيه الصناعات الإبداعية في العالم لتصبح رافداً رئيساً للناتج المحلي في كثير من الدول. ووفق تقرير اتحاد الناشرين العرب الصادر في عام 2023، بلغ عدد العناوين المنشورة في الدول العربية خلال عام 2022 نحو سبعة عشر ألفاً وخمسمائة عنوان فقط، أي ما يعادل نسبة واحد ونصف بالمئة من الإنتاج الأمريكي الذي تجاوز مليوناً ومئتي ألف كتاب في العام ذاته بحسب ما نقلته صحيفة “إيلاف” في تقريرها الاقتصادي الثقافي الصادر في أكتوبر 2025، مما يبيّن محدودية الحضور العربي في سوق النشر العالمي.

وفي تفاصيل أكثر، أشار تقرير ثقافي لصحيفة “عكاظ” السعودية إلى أنّ مصر تتصدّر مشهد النشر العربي بإصدار ما يقارب ثلاثةً وعشرين ألف كتاب سنوياً، تليها العراق بثمانية آلاف وأربعمئة عنوان، ثم المملكة العربية السعودية بثمانية آلاف ومئة وواحد وعشرين كتاباً، فلبنان بسبعة آلاف وأربعمئة وتسعة وسبعين عنواناً، مع تأكيد اتحاد الناشرين العرب أنّ مجموع الإنتاج العربي لا يتجاوز واحداً بالمئة من النشر العالمي. كما نقلت منظمة اليونسكو عبر تقريرها السنوي لعام 2024 عن وكالة “إرم نيوز” أنّ معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز ربع صفحة للفرد سنوياً، وهو رقم يُظهر ضعف الطلب المحلي على الكتاب وغياب السوق القرائية الفاعلة، ما ينعكس سلباً على استدامة الاقتصاد الأدبي العربي.

وتشير البيانات الصادرة عن موقع “الرياض” الاقتصادي إلى أنّ نصيب الفرد العربي من الإنتاج الأدبي السنوي لا يتعدى 0.044 كتاباً، أي كتاباً واحداً لكل ثلاثةٍ وعشرين شخصاً في السنة، بينما يبلغ المعدل في أوروبا وأمريكا كتاباً واحداً لكل أربعة أشخاص تقريباً. كما أظهرت تقارير قناة “الجزيرة” الثقافية المنشورة في يناير 2025 أنّ مئات المكتبات في الوطن العربي أغلقت أبوابها خلال السنوات الثلاث الأخيرة بسبب ضعف المبيعات وغياب الدعم المؤسسي، وهو ما أدى إلى تقلص قنوات التوزيع وانخفاض عوائد النشر بنسب وصلت إلى ثلاثين بالمئة في بعض الدول. وتوضح هذه المعطيات أنّ التحدي ليس في الإنتاج فقط، بل في سلاسل القيمة المتكاملة للنشر من طباعة وتوزيع وتسويق.

أما النشر الرقمي، الذي يُعدّ اليوم ركيزة الاقتصاد الإبداعي العالمي، فما يزال حضوره العربي محدوداً رغم أن تقديرات منتدى الاقتصاد الإبداعي العربي لعام 2025 تشير إلى أنّ التحول الرقمي الكامل في قطاع الأدب يمكن أن يضاعف الإيرادات ويقلل تكاليف الإنتاج بنسبة تصل إلى أربعين بالمئة. ومع ذلك، فإن القرصنة الإلكترونية تمثّل تحدياً اقتصادياً خطيراً، إذ أوضح رئيس اتحاد الناشرين العرب في حديث لصحيفة “عكاظ” أنّ أكثر من ثلاثين بالمئة من الكتب العربية المنتشرة على الإنترنت تُنشر من دون إذن أصحابها، مما يؤدي إلى خسائر مالية تقدّر بعشرات ملايين الدولارات سنوياً ويقوّض الثقة في سوق النشر الإلكتروني العربي.

وقد تناول موقع “العربي الجديد” في دراسة موسعة بعنوان «الرواية العربية وفقر الإحصاءات» إشكالية غياب البيانات الموثوقة حول الإنتاج الأدبي، مؤكداً أنّ غياب قواعد البيانات الرسمية في معظم الدول العربية يحول دون تطوير سياسات اقتصادية فعالة لدعم صناعة الكتاب. كما أشار التقرير نفسه إلى أنّ ضعف التسويق الخارجي وندرة الترجمات إلى اللغات الأجنبية يسهمان في انكماش العائدات المالية وحرمان الأدب العربي من منافذ التصدير الثقافي التي تشكّل أحد أبرز مصادر الدخل في الدول المتقدمة.

ورغم هذه التحديات البنيوية، بدأت بعض المبادرات الواعدة تظهر لتعيد تشكيل المشهد الأدبي الاقتصادي، أبرزها مبادرة “أصوات عربية” التي أطلقتها مؤسسات ثقافية عربية بالتعاون مع جهات دولية في سبتمبر 2025، والتي تهدف إلى ترجمة الأدب العربي الحديث إلى لغات العالم وترويجه في الأسواق العالمية، وقد وصفتها وكالة “رويترز” بأنها خطوة استراتيجية نحو دمج الأدب العربي في الاقتصاد الثقافي العالمي. كما سجلت تقارير هيئة الاقتصاد الإبداعي العربي لعام 2025 ارتفاعاً في حجم الاستثمارات الموجهة إلى الصناعات الثقافية بنسبة اثني عشر بالمئة خلال عام واحد فقط، مدفوعة بمبادرات إماراتية وسعودية لدعم الكتّاب الشباب وتنظيم معارض كتب كبرى مثل معرض الرياض ومعرض الشارقة، اللذين استقطبا أكثر من مليوني زائر في 2024 وحققا عائدات تجاوزت مئتي مليون دولار وفق البيانات التي نشرتها صحيفة “الرياض”.

ومن الناحية التحليلية، فإنّ تحويل الأدب العربي الحديث إلى صناعة اقتصادية مزدهرة يتطلب تبني سياسات شاملة توازن بين دعم المبدع العربي وتشجيع الاستثمار في النشر الورقي والرقمي، إلى جانب تعزيز ثقافة القراءة وإعادة الاعتبار للكتاب كمنتج اقتصادي له قيمة مضافة. ويخلص تقرير “الجزيرة” الثقافي إلى أنّ غياب منظومة تشريعية لحماية حقوق الملكية الفكرية في بعض الدول العربية يحد من تدفق رؤوس الأموال نحو هذا القطاع، بينما يشير اتحاد الناشرين العرب إلى أنّ دعم الحكومات لصناديق تمويل النشر يمكن أن يرفع معدل الإنتاج بنسبة ثلاثين بالمئة في غضون خمس سنوات إذا ما وُضع ضمن خطط التنمية الثقافية المستدامة.

وفي ضوء ما تقدّم، يتّضح أنّ الأدب العربي الحديث يقف عند مفترق طرق حاسم بين الإبداع الثقافي والجدوى الاقتصادية. فإذا أُعيدت هيكلة هذا القطاع وفق رؤية شاملة تعتمد على التحول الرقمي، وتشجيع القراءة، وتفعيل قوانين حماية الحقوق، وتوسيع قاعدة الترجمة والتصدير، فإنّ الأدب العربي لن يبقى مجرد أداة للتعبير الثقافي بل سيصبح رافداً اقتصادياً حقيقياً يعزز الناتج المحلي ويساهم في تنويع مصادر الدخل الوطني. فالثروة الأدبية ليست مجرّد كلمات، بل رأس مال فكري قابل للتحويل إلى طاقة اقتصادية مستدامة قادرة على أن تضع الثقافة العربية في قلب الاقتصاد العالمي المعاصر.

شارك المقال