80% من إقتصاد المنطقة بيد العائلات... فهل تصمد أمام تحدي الحوكمة؟

تُشكّل الشركات العائلية العمود الفقري للإقتصاد العربي، إذ تُقدّر مساهمتها بأكثر من 80% من إجمالي الناتج المحلي للقطاع الخاص في المنطقة، وفقاً لتقرير صادر عن PwC الشرق الأوسط . فإن هذه الشركات التي تمتد جذورها عبر أجيال متعاقبة، لعبت دورًا محوريًا في تطوير قطاعات حيوية كالتجارة، العقارات، والصناعة، لكنها تواجه اليوم تحديًا بنيويًا كبيرًا يتمثل في التحوّل نحو الحوكمة المؤسسية أي الإنتقال من الإدارة العائلية التقليدية إلى نظام شفاف ومنضبط قائم على المساءلة والاستدامة.
وزن الشركات العائلية في الأسواق العربية
تشير بيانات صندوق النقد العربي (2023) إلى أن الشركات العائلية تُمثل أكثر من 90% من عدد الشركات المسجلة في دول مجلس التعاون الخليجي، وتُوظّف نحو 60% من القوى العاملة في القطاع الخاص. هذه الأرقام تُبرز عمق تأثير هذه الكيانات على الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي في المنطقة، لكنها تكشف أيضًا عن حساسية عالية لأي خلل إداري أو خلاف عائلي قد ينعكس مباشرة على النمو الإقتصادي الوطني.
في المقابل، تُظهر دراسة Deloitte Family Business Survey (2024) أن أقل من 20% من الشركات العائلية العربية تمتلك لوائح حوكمة مكتوبة أو مجالس إدارة مستقلة، وهي نسبة أقل بكثير من المتوسط العالمي البالغ نحو 55%. هذا الضعف في الحوكمة يعني أن العديد من الشركات ما زالت تُدار بعقلية "المالك الواحد"، ما يعرّضها لمخاطر التشتت العائلي، ضعف الرقابة، وصعوبة جذب الاستثمارات الخارجية.
الحوكمة كضرورة إقتصادية وليست رفاهية إدارية
الحوكمة المؤسسية في الشركات العائلية لا تقتصر على تنظيم العلاقة بين أفراد العائلة، بل تشمل أيضًا توزيع السلطات، وضع آليات إتخاذ القرار، الإفصاح المالي، ومتابعة الأداء الإستراتيجي. ووفقاً لتقرير منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية (OECD) حول الشركات العائلية (2023)، فإن تطبيق مبادئ الحوكمة يسهم في رفع كفاءة المؤسسات بنسبة تصل إلى 25% خلال خمس سنوات، ويُضاعف فرص إستمرارها بعد الجيل الثالث.
في السياق العربي، بدأت الحكومات والهيئات التنظيمية بالتحرك نحو تعزيز هذه الثقافة. ففي السعودية، أطلقت هيئة السوق المالية مبادرة "حوكمة الشركات العائلية 2030" لتشجيع هذه المؤسسات على التحول إلى شركات مساهمة مغلقة أو عامة، مع إعتماد ميثاق عائلي يحدد الأدوار والحقوق. وفي الإمارات، أصدر مركز دبي المالي العالمي (DIFC) دليلاً إرشادياً خاصاً عام 2024 حول إدارة الشركات العائلية، يتضمن نماذج عملية لتأسيس مجالس عائلية مستقلة ولجان مراجعة مالية.
من الإقتصاد العائلي إلى المؤسسية الحديثة
التحدي الأكبر أمام الشركات العائلية في المنطقة هو فصل الملكية عن الإدارة. فالكثير من هذه المؤسسات لا تزال تعتمد على "الخبرة العائلية" دون إدماج الخبرات الإحترافية من خارج الأسرة، ما يقلل من فرص الإبتكار ويحد من القدرة على التوسع.
توضح دراسة Harvard Business Review Arabia (2024) أن الشركات التي عيّنت مديرين تنفيذيين من خارج العائلة حققت متوسط نمو سنوي في الإيرادات بلغ 14%، مقابل 6% فقط للشركات التي أبقت على الإدارة العائلية الخالصة.
هذا التحول نحو الإدارة المؤسسية لا يعني بالضرورة تخلّي العائلة عن هويتها، بل يتطلب توزيعاً واضحاً للأدوار بين المُلّاك والمديرين. فالعائلة تبقى صاحبة الرؤية والقيم، بينما تتولى الإدارة التنفيذية التخطيط والتشغيل وفق أطر مهنية.
النموذج الناجح لذلك هو مجموعة الفطيم في الإمارات التي إستطاعت، من خلال فصل الإدارة عن الملكية، أن تتحول إلى شركة إقليمية عملاقة تمتلك علامات تجارية دولية، مع الحفاظ على طابعها العائلي وقيمها المؤسسية.
التحديات البنيوية والثقافية
رغم هذه التحولات، تواجه الشركات العائلية العربية عوائق ثقافية وقانونية، من أبرزها:
• غياب الشفافية في البيانات المالية بسبب ثقافة الخصوصية العائلية.
• الخلافات حول الخلافة والوراثة، إذ تفيد دراسة لـ KPMG (2023) أن أكثر من 40% من الشركات العائلية في الشرق الأوسط ليس لديها خطة واضحة لإنتقال القيادة إلى الجيل التالي.
• ضعف الثقة في الإستشارات الخارجية، ما يجعل العديد من العائلات تتردد في إشراك خبراء حوكمة أو محاسبين مستقلين.
كما أن الإطار القانوني في بعض الدول العربية لا يزال يفتقر إلى تشريعات واضحة تنظم الشركات العائلية ككيان خاص بين الشركة الفردية والمساهمة، ما يخلق فراغاً تنظيمياً يزيد من تعقيد الإدارة.
التحوّل إلى شركات مساهمة
إتجهت العديد من الشركات العائلية الكبرى إلى طرح أسهمها في البورصات المحلية كخطوة نحو الإستدامة المؤسسية. فقد شهدت سوق أبوظبي المالي عام 2023 إدراج مجموعة "اللولو" القابضة كإحدى أكبر الطروحات في المنطقة، وهو تحول يُعتبر نموذجًا على قدرة الشركات العائلية على التكيّف مع قواعد الإفصاح والمساءلة العامة.
وفي السعودية، شجعت "هيئة منشآت" الشركات العائلية على التحول إلى مساهمة مغلقة للإستفادة من التمويل المؤسسي وضمان الاستمرارية بعد الأجيال الأولى.
تؤكد Bloomberg Intelligence (2024) أن الشركات العائلية التي طرحت أسهماً في البورصة شهدت زيادة في الشفافية المالية وتحسنًا في التصنيف الإئتماني بنسبة تتراوح بين 10 و15% خلال أول عام من الإدراج.
دور الجيل الجديد في التحوّل الرقمي والحوكمي
يلعب الجيل الثالث والرابع من رواد الأعمال العائليين دورًا حاسمًا في تسريع تبنّي الحوكمة الرقمية. فالكثير من الورثة الجدد درسوا إدارة الأعمال والتمويل في جامعات عالمية، ويجلبون معهم رؤية عصرية تعتمد على الشفافية والتقنيات الحديثة.
تشير دراسة Arab Family Business Forum (2024) إلى أن أكثر من 70% من الورثة الجدد في الخليج يعتزمون توظيف الذكاء الإصطناعي والبلوك تشين في تحسين الإدارة المالية وسلاسل الإمداد في شركاتهم. هذا التحول التكنولوجي يرافقه وعي متزايد بأهمية الرقابة الداخلية وتوزيع السلطات.
من الحوكمة إلى الإقتصاد المستدام
مع تنامي الوعي بأهمية الإستدامة، لم تعد الحوكمة هدفًا بحد ذاتها، بل أصبحت وسيلة لبناء إقتصاد عربي مستدام ومتنوّع. فالشركات العائلية التي تعتمد الشفافية والمساءلة تجذب المستثمرين الأجانب، وتعزز ثقة الأسواق المالية.
تقدّر McKinsey (2024) أن تحسين الحوكمة في الشركات العائلية يمكن أن يضيف نحو 250 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة العربية بحلول 2035 من خلال تحسين الكفاءة التشغيلية والإستثمار طويل الأجل.
لكن ذلك يتطلب تعاونًا ثلاثيًا بين العائلة المالكة، الحكومة، والمجتمع المالي لتأسيس بيئة تشريعية ومصرفية تشجع التحول المؤسسي وتضمن العدالة في توزيع الثروة داخل الأجيال.