Contact Us
اقتصاد

القدرة على السداد… الفارق بين الإقتصادات الكبرى ولبنان

.

تمثل مسألة المديونية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي محوراً أساسياً في فهم التوازنات الإقتصادية العالمية، حيث تظهر الفروق الجوهرية بين الدول العظمى والدول التي تمر بأزمات مالية مثل لبنان.

اختلاف المهام بين المؤسستين

تبدأ القصة بالتمييز بين طبيعة عمل المؤسستين الماليتين الدوليتين. فالبنك الدولي يركز على تمويل المشاريع التنموية طويلة الأمد مثل مشاريع البنى التحتية والبرامج التعليمية والصحية، بينما يتخصص صندوق النقد الدولي في تقديم القروض السريعة لمعالجة أزمات ميزان المدفوعات وإستقرار الإقتصاد الكلي، وغالباً ما تكون مصحوبة بشروط إصلاحية تتعلق بالسياسات المالية والنقدية.

ممول لا مقترض

عند النظر إلى الدول الكبرى، تتضح مفارقة مهمة: فالولايات المتحدة والصين واليابان لا تُعدّ مقترضة بالمعنى التقليدي من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، بل هي في الواقع المساهم والممول الرئيسي لهما.

تمتلك الولايات المتحدة ديوناً خارجية تقدَّر بنحو 25 تريليون دولار، لكنها لا تدين للبنك الدولي أو لصندوق النقد الدولي. والأمر نفسه ينطبق على الصين التي يبلغ إجمالي دينها الخارجي نحو 2.5 تريليون دولار، في حين لا تتجاوز ديونها للبنك الدولي 1.9 مليار دولار مخصّصة لمشاريع محددة، وهي في المقابل تُعد مقرضاً رئيسياً للعديد من الدول عبر مبادراتها التنموية، مثل "الحزام والطريق".

القوة الحقيقية لهذه الدول تكمن في قدرتها على الإقتراض المباشر من الأسواق المالية العالمية من خلال إصدار سندات سيادية، بفضل الثقة العالمية بعملاتها وإقتصاداتها المنتجة. فالدولار الأميركي واليوان الصيني والين الياباني والجنيه الإسترليني عملات مقبولة عالمياً، ما يمكّن هذه الدول من تدبير إحتياجاتها التمويلية بسهولة وبفوائد منخفضة.

لبنان: نموذج للأزمة المالية والديون المتعثرة

في المقابل، تمثل حالة لبنان نموذجاً مختلفاً تماماً. إذ يعاني البلد من أزمة إقتصادية ومالية صنّفها البنك الدولي عام 2021 بأنها من بين أسوأ ثلاث أزمات مالية شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

بلغ إجمالي الدين العام اللبناني نحو 100 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 170% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما بلغت ديون لبنان للبنك الدولي نحو 1.8 مليار دولار، مخصّصة لتمويل مشاريع تنموية في مجالات البنى التحتية والتعليم والطاقة. ولا يمتلك لبنان حالياً أي قرض فعّال من صندوق النقد الدولي.

تجلّت الأزمة اللبنانية في إنهيار العملة المحلية التي فقدت أكثر من 98% من قيمتها، وتخلّف الدولة عن سداد ديونها السيادية في عام 2020، لتصبح أول دولة في الشرق الأوسط تتخذ هذا الإجراء. كما إنهار القطاع المصرفي مع تجميد الودائع وفقدان المدخرات، ما أدى إلى فقدان الثقة المحلية والدولية بالنظام المالي.

اتفاق مؤجل مع صندوق النقد

رغم توصّل لبنان إلى إتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار تُصرف على مدى أربع سنوات، فإن تنفيذ الاتفاق لا يزال معلقاً بسبب عدم إقرار السلطات اللبنانية للإصلاحات المطلوبة، والتي تشمل إعداد موازنة شفافة، وإصلاح القطاع المالي، وتوحيد سعر الصرف، وإعادة هيكلة قطاع الكهرباء.

القدرة على السداد

يكمن الفارق الجوهري بين الدول الكبرى ولبنان في مفهوم "القدرة على السداد". فالدول الصناعية الكبرى تمتلك إقتصاد ضخم ومنتج واحتياطيات هائلة من العملات الأجنبية، في حين يعاني لبنان من إقتصاد منكشف وإحتياطيات شبه منعدمة من النقد الأجنبي.

كما تختلف طبيعة المديونية: فديون الدول الكبرى تُعتبر "آمنة" أو "مستدامة" لأنها مدعومة بإقتصادات قوية، بينما أصبحت ديون لبنان "متعثرة" لأنها تجاوزت قدرة الدولة على السداد وأُدرجت في خانة المخاطر العالية لدى المؤسسات المالية الدولية.

مقارنة حجم الديون بين الدول الكبرى ولبنان قد تكون مضللة، فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في حجم الدين بحد ذاته، بل في القدرة على إدارته وسداده.

لبنان يحتاج اليوم بشكل عاجل إلى إتفاق فعلي مع صندوق النقد الدولي كمنفذ أساسي للإنقاذ، في حين يعتمد الصندوق نفسه على دعم الدول الكبرى لتمويل عملياته.

يبقى طريق التعافي اللبناني مشروطاً بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي من شأنها إستعادة الثقة الدولية وفتح الباب أمام المساعدات والإستثمارات الخارجية، بما يعيد إدماج لبنان في المنظومة المالية العالمية.

شارك المقال