الأزمة المالية والسياسية تعرقل إعادة إعمار الجنوب اللبناني

ما زال الجنوب اللبناني يعيش تحت وطأة تبعات العدوان الإسرائيلي الأخير، رغم مرور نحو عشرة أشهر ونصف على اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وبين الركام والدمار، تتواصل المعاناة الإنسانية والاقتصادية وسط عراقيل متزايدة تعيق إعادة الإعمار وعودة الحياة إلى طبيعتها وبسبب الإعتداءات المتكررة من العدو الإسرائيلي على الأراضي الجنوبية للبنان.
وفقًا لتقديرات البنك الدولي ضمن تقرير تقييم الأضرار والاحتياجات (RDNA) الصادر في آذار/مارس 2025، تجاوزت كلفة إعادة الإعمار في لبنان 11 مليار دولار، فيما سُجّلت أضرار في نحو 99 ألف وحدة سكنية بين تدمير كلي وجزئي، غالبيتها في الجنوب والمناطق الحدودية.
كما وثّقت منظمة العفو الدولية أن أكثر من 10 آلاف مبنى تعرض لتدمير واسع النطاق شمل منازل، منشآت زراعية، ومدارس، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب.
أما الأمم المتحدة فقدّرت عدد النازحين داخليًا بنحو 100 ألف شخص ما زال قسم كبير منهم غير قادر على العودة إلى بلداتهم بسبب الدمار أو المخاطر الأمنية المستمرة.
يواصل العدو بإتباع سياسة ممنهجة لعرقلة إعادة الإعماررغم سريان الهدنة، عبر إستهداف ورش البناء والآليات الثقيلة، ومنع دخول مواد أساسية مثل الحديد والإسمنت إلى القرى الحدودية.كما تم توثيق عدة حوادث قصف طالت مناطق تشهد نشاطًا عمرانيًا محدودًا، حتى إستهداف المعدات الثقيلة أي الآليات المستخدمة في البناء، مثل الجرافات، اللوادر، الحفارات، والرافعات. ما زاد من صعوبة عودة الأهالي إلى منازلهم، وأبطأ وتيرة الترميم الذاتي الذي بدأه السكان المحليون.
في المقابل، تشير منظمات مدنية إلى أن غياب خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار، وإرتباط التمويل بشروط سياسية ودولية، جعلا الجنوب رهينة بين مطرقة الدمار وسندان البيروقراطية.
تعمّقت الأزمة مع القيود المصرفية والمالية التي طالت الجمعيات العاملة في الميدان الإنساني.
فقد أعلنت جمعية "وتعاونوا"، وهي من أبرز الجهات المحلية التي تولت تأمين المنازل الجاهزة والتعليم المؤقت بعد الحرب، أن شركة "Whish Money" أغلقت حسابها المصرفي المخصص لجمع التبرعات رغم إستكمالها الإجراءات القانونية، وذلك استنادًا إلى التعميم رقم 170 الصادر عن مصرف لبنان.
التعميم رقم 170: هو قرار صادر عن مصرف لبنان يضع قيودًا وضوابط على الحسابات المصرفية والتحويلات المالية، ويهدف إلى تنظيم التعاملات المالية في البلاد، لكنه أدى إلى إغلاق بعض الحسابات المخصصة لجمع التبرعات، مما أثر على جهود الإغاثة والمبادرات المحلية لإعادة الإعمار.
ووصفت الجمعية القرار بأنه "ضربة قاسية لجهود الإغاثة وإعادة البناء"، محذّرة من أن هذه التدابير "تُسهم في تعطيل المبادرات المحلية وتفاقم الحصار المالي المفروض على الجنوب".تقارير صحفية منها ( L’Orient-Le Jour و Tehran Tim) أفادت بأن عشرات الحسابات الأخرى أُقفلت لأسباب مماثلة، في خطوة وُصفت بأنها إمتداد للحصار المالي الدولي على بيئة المقاومة.
يُضاف إلى ذلك الانهيار الإقتصادي العام في لبنان، الذي فاقم من ضعف القدرة المحلية على تمويل الإعمار الذاتي.
فالمواد الأساسية للبناء باتت نادرة أو باهظة الثمن، والتحويلات الخارجية تخضع لرقابة مشددة، فيما تتضاءل قدرة الدولة على دعم مشاريع البنية التحتية بفعل العجز المالي الحاد.
ويرى خبراء أن هذا الوضع يهدد بتأخر إعادة الإعمار لسنوات، إن لم يتم إيجاد آلية مالية شفافة ومستقلة لتوجيه التمويل الدولي بشكل مباشر نحو المشاريع الميدانية.
على الرغم من حجم الدمار، يواصل أبناء الجنوب اللبناني تقديم نموذج إستثنائي في الصمود والمبادرة الذاتية.
تشهد القرى الحدودية مبادرات تطوعية لإصلاح المنازل المتضررة، وحملات تضامن لتأمين الغذاء والمساعدات للعائلات المنكوبة.
كما أُقيمت مدارس بديلة مؤقتة لاستكمال العام الدراسي، في مشهد يعكس تمسّك الأهالي بالأرض والتعليم كرمزين للحياة والاستمرار.
ويؤكد ناشطون محليون أن "الجنوب لا ينتظر وعودًا سياسية أو مؤتمرات دولية، بل ينهض بإرادته الذاتية وقدرته على التكاتف المجتمعي"، معتبرين أن الصمود المدني "هو الرد الأقوى على سياسة التجويع والعزل".
رغم بيانات الأمم المتحدة المتكرّرة الداعية إلى دعم جهود إعادة الإعمار، لم تُسجّل حتى الآن خطوات عملية للضغط على الكيان الإسرائيلي لوقف اعتداءاته أو لتسهيل دخول مواد البناء إلى المناطق المتضررة.
ويرى مراقبون أن إزدواجية المعايير الدولية تجعل الجنوب اللبناني وحيدًا في مواجهة الحصار، في حين تتكدس ملفات الإغاثة والمساعدات على رفوف البيروقراطية الأممية دون تنفيذ فعلي.
بين الركام والألم، يبقى الجنوب اللبناني رمزًا للصمود والإصرار على الحياة.كل منزل مهدّم يحكي قصة عائلة صمدت، وكل مدرسة مدمّرة تروي حكاية طلاب يتحدّون الحرب بالعلم والأمل.ورغم إستمرار محاولات الإحتلال لطمس معالم الحياة، يثبت الجنوبيون يومًا بعد يوم أن إرادة الحياة أقوى من آلة الدمار، وأن جذورهم في الأرض أعمق من أن تُقتلع.