Contact Us
Ektisadi.com
اقتصاد

تأثير الصراع الحدودي على القطاعات الاقتصادية في لبنان

.

يشهد الاقتصاد اللبناني منذ أواخر عام 2023 آثاراً متصاعدة نتيجة الصراع الحدودي المتجدد في الجنوب، وهو صراع ألقى بظلال ثقيلة على القطاعات الإنتاجية والخدمية كافة. وفق تقرير البنك الدولي (Lebanon Economic Monitor، ربيع 2025)، انخفض النمو الاقتصادي الفعلي بنسبة تقارب 7.1 في المئة مقارنة بالعام السابق، بعدما كان التقدير الأولي يشير إلى انكماش لا يتجاوز 6.6 في المئة، مما يعكس حجم الضرر الناتج عن تراجع النشاط التجاري والسياحي والزراعي وتوقف مشاريع إعادة الإعمار في مناطق التماس. كما أشار التقرير نفسه إلى أن الاقتصاد اللبناني خسر خلال الفترة بين 2020 و2025 أكثر من 40 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي الحقيقي مقارنة بما قبل الأزمة المالية.

القطاع السياحي الذي شكّل لعقود إحدى ركائز الاقتصاد اللبناني كان من أكثر المتضررين من هذا الصراع. فقد أظهر تقرير منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة (UNWTO، 2024) أن عدد الوافدين إلى لبنان تراجع بنسبة تفوق 35 في المئة في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 نتيجة تصاعد التوترات الحدودية، ما أدى إلى انخفاض إيرادات السياحة إلى أقل من 2.3 مليار دولار مقارنة بـ3.6 مليارات في 2019. كما بيّن تقرير وزارة السياحة اللبنانية (نهاية 2024) أن نسبة إشغال الفنادق في بيروت والجنوب لم تتجاوز 28 في المئة في ذروة الصيف، وهو أدنى معدل منذ عام 2006، ما أفقد السوق نحو 50 ألف فرصة عمل موسمية في الضيافة والنقل والخدمات.

القطاع الزراعي كان بدوره في صميم الخسائر الميدانية إذ تشكّل المناطق الحدودية بيئة أساسية للإنتاج الزراعي اللبناني. وفق تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO، كانون الثاني 2025)، فإن أكثر من 40 في المئة من الأراضي المزروعة في الجنوب والبقاع الغربي تضررت جزئياً أو كلياً جراء القصف والنزوح، مما أدى إلى خسائر تقدّر بنحو 980 مليون دولار في موسم واحد. كما أشار تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) إلى أن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي انخفضت من 7.8 في المئة عام 2022 إلى 5.9 في المئة عام 2024، الأمر الذي رفع فاتورة استيراد الغذاء إلى أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً وزاد معدلات التضخم الغذائي بنسبة تجاوزت 35 في المئة خلال عام واحد.

أما القطاع الصناعي، الذي يعتمد على الاستقرار اللوجستي والمرافئ والطرق السريعة، فقد شهد تراجعاً حاداً في الإنتاج بسبب تعطّل سلاسل الإمداد وتضرّر المنشآت. وأوضح تقرير مركز الدراسات الصناعية اللبناني (آذار 2025) أن نحو 300 مؤسسة صناعية صغيرة ومتوسطة توقفت عن العمل في الجنوب والبقاع، وأن خسائر القطاع الصناعي المباشرة بلغت حوالي 1.4 مليار دولار خلال عام واحد فقط. كما أكّد تقرير البنك الدولي حول تقييم أضرار البنى التحتية (2025) أن لبنان يحتاج إلى ما بين 6 و11 مليار دولار لإعادة تأهيل المساكن والمصانع والطرقات المتضررة، وهو رقم يتجاوز قدراته التمويلية الحالية بكثير.

القطاع المالي والمصرفي تعرّض لضغوط إضافية، إذ زادت التوترات من عمليات سحب الودائع وهروب رؤوس الأموال. وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي (IMF Country Report No.25/34، شباط 2025) فإن حجم الودائع في المصارف اللبنانية تراجع بنسبة 12 في المئة خلال النصف الثاني من عام 2024 فقط، فيما انخفضت تحويلات المغتربين بنسبة 18 في المئة نتيجة تزايد المخاوف من عدم الاستقرار السياسي والأمني. كما أشار الصندوق إلى أن خسائر المصارف تراكمت لتبلغ نحو 73 مليار دولار حتى مطلع 2025 ما يعقّد مسار التعافي المالي ويُضعف الثقة بالقطاع المصرفي.

في المقابل، أدى إغلاق المعابر الحدودية وارتفاع تكاليف التأمين والنقل إلى تعطّل حركة التجارة الخارجية. وذكر تقرير غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان (ديسمبر 2024) أن الصادرات اللبنانية تراجعت بنسبة 22 في المئة خلال العام، وأن كلفة النقل البحري ارتفعت بنسبة 40 في المئة بسبب زيادة المخاطر الحربية المفروضة من شركات التأمين العالمية. كما تراجع عدد الشاحنات العابرة إلى سوريا والأردن بنسبة 60 في المئة، وهو ما أثّر بشكل مباشر على سلاسل الإمداد الصناعية والزراعية.

انعكست هذه الأوضاع أيضاً على سوق العمل والمستوى المعيشي، حيث أوضح تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP، نيسان 2025) أن نحو 25 في المئة من الوظائف في القطاع الخاص في المناطق المتضررة فُقدت خلال أقل من عام واحد، وأن نسبة الفقر العام ارتفعت لتتجاوز 74 في المئة من السكان. هذا التدهور الاجتماعي يهدّد الاستقرار المجتمعي ويزيد من الاعتماد على المساعدات الإنسانية التي بلغت قيمتها أكثر من 1.1 مليار دولار في عام 2024 بحسب بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

تُظهر هذه المؤشرات أن الصراع الحدودي لم يعد أزمة أمنية فحسب بل تحوّل إلى أزمة اقتصادية هيكلية عميقة. وتشير تقارير الإسكوا والبنك الدولي إلى أن التعافي يتطلب برنامجاً متكاملاً لإعادة الإعمار وتمويلاً خارجياً يتجاوز 10 مليارات دولار على مدى خمس سنوات، إلى جانب إصلاحات مالية وإدارية عاجلة تعيد الثقة وتنعش الاستثمار. وتوصي الإسكوا (تقرير نيسان 2025) بتركيز الجهود على دعم الزراعة المستدامة والسياحة الداخلية وتحفيز الصناعات الخفيفة الموجهة للتصدير كسبيل لبناء مرونة اقتصادية حقيقية.

في الخلاصة، يظهر من مجمل البيانات أن الصراع الحدودي أضعف ركائز الاقتصاد اللبناني وأطال أمد الأزمة المالية القائمة منذ 2019، فيما تظل فرص التعافي مشروطة بتحقيق استقرار أمني وإطلاق إصلاحات شاملة تستند إلى دعم دولي منسق. إن التحدي الأكبر للبنان اليوم ليس فقط في وقف الخسائر بل في تحويل الأزمة إلى نقطة انطلاق لإعادة بناء اقتصاد منتج وأكثر توازناً واستدامة.