الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الأمن الغذائي في الشرق الأوسط

أدّت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022 إلى واحدة من أكبر الصدمات في سلاسل الإمداد الغذائي العالمية منذ الحرب العالمية الثانية. فروسيا وأوكرانيا كانتا قبل الحرب تُشكّلان معًا نحو 30٪ من صادرات القمح العالمية و65٪ من صادرات زيت عباد الشمس، وفق بيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO). ومع تعطل موانئ البحر الأسود وفرض العقوبات التجارية، ارتفعت أسعار القمح عالميًا بنسبة تجاوزت 50٪ خلال النصف الأول من عام 2022، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي (IMF، مارس 2023).
تأثّرت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل خاص بهذه الأزمة، إذ تعتمد معظم دولها اعتمادًا كبيرًا على استيراد القمح والحبوب من روسيا وأوكرانيا. فمصر — وهي أكبر مستورد للقمح في العالم — كانت تستورد قبل الحرب أكثر من 80٪ من احتياجاتها من البلدين. كما تعتمد لبنان على واردات الحبوب بنسبة تفوق 90٪ من استهلاكه المحلي، وقد واجه منذ عام 2022 ارتفاعًا حادًا في أسعار الخبز وصل إلى 300٪ خلال أقل من عام، بحسب بيانات البنك الدولي (تقرير الأمن الغذائي العالمي 2023).
أشارت منظمة الفاو إلى أن مؤشر أسعار الغذاء العالمي بلغ ذروته في مارس 2022 عند 159.7 نقطة، وهو أعلى مستوى له منذ بدء تسجيل المؤشر عام 1990، ثم تراجع تدريجيًا لكنه ظل أعلى بنسبة نحو 20٪ من متوسط الأسعار قبل الحرب حتى نهاية عام 2024. هذا الارتفاع أثّر بشكل مباشر على الأمن الغذائي في دول الشرق الأوسط التي تواجه أصلًا تحديات في الإنتاج الزراعي بسبب محدودية المياه وتراجع الأراضي الصالحة للزراعة.
ووفق تقرير برنامج الأغذية العالمي (WFP) لعام 2025، فإن أكثر من 54 مليون شخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بزيادة تقارب 12٪ عن عام 2021. وتُظهر بيانات التقرير أن الصراع في أوكرانيا لم يكن السبب الوحيد، بل فاقم وضعًا هشًّا أصلاً بسبب التضخم العالمي وتغير المناخ وتراجع الاستثمارات الزراعية المحلية.
اقتصاديًا، تسببت الأزمة في ارتفاع فواتير الاستيراد الغذائية في دول المنطقة بنسبة تراوحت بين 25 و45٪ خلال عام 2023 وفق تقديرات المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI)، ما وضع ضغوطًا هائلة على موازنات الحكومات، وأدى إلى إعادة النظر في سياسات الدعم الغذائي. في تونس والمغرب والأردن مثلاً، اضطرت الحكومات إلى توجيه دعم مباشر للخبز والقمح لتخفيف أثر الزيادات على المستهلكين. أما اليمن وسوريا والسودان، حيث تتداخل الأزمات السياسية والاقتصادية، فشهدت ارتفاعات حادة في مؤشرات الجوع الحاد ونقص الإمدادات الأساسية.
تؤكد بلومبيرغ ورويترز في تقاريرهما لعامي 2023 و2024 أن بلدان الشرق الأوسط دخلت في سباق لإعادة تنويع مصادرها الغذائية عبر استيراد القمح من الهند وكندا وفرنسا بدلاً من الاعتماد المفرط على روسيا وأوكرانيا. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة لم تعوّض تمامًا الفجوة، بسبب ارتفاع تكاليف النقل والشحن، إضافةً إلى تزايد المنافسة العالمية على السلع الأساسية.
من الناحية السياسية والاستراتيجية، بدأت بعض الدول، مثل السعودية والإمارات ومصر، بتنفيذ استثمارات خارجية في الزراعة في دول أفريقية وآسيوية لتعزيز أمنها الغذائي، فيما تبنّت قطر والإمارات برامج لتطوير الزراعة المحلية باستخدام التقنيات الحديثة والزراعة الرأسية. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن تعزيز الإنتاج المحلي بنسبة 10٪ فقط يمكن أن يخفض فاتورة الواردات الغذائية في المنطقة بما يصل إلى 6 مليارات دولار سنويًا.
في المقابل، تحذّر الأمم المتحدة من أن استمرار الحرب في أوكرانيا، إلى جانب التغير المناخي، قد يؤدي إلى بقاء أسعار الغذاء العالمية مرتفعة خلال السنوات المقبلة، وهو ما يعني استمرار الضغط على الأمن الغذائي في الشرق الأوسط ما لم تُتّخذ سياسات تكيف طويلة الأمد تشمل تحسين إدارة المياه، وتطوير سلاسل الإمداد المحلية، وزيادة الاستثمارات في الزراعة المستدامة.
ختامًا، تُظهر الأزمة الأوكرانية أن الأمن الغذائي لم يعد قضية زراعية فقط، بل قضية أمن قومي واقتصادي. وقد كشفت الحرب هشاشة منظومة الغذاء العالمية، وبيّنت أن تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط يتطلب تنويع مصادر الاستيراد، وزيادة الإنتاج المحلي، وتعزيز التعاون الإقليمي في مجال الحبوب والزيوت والأسمدة، حتى لا تبقى المنطقة رهينة لتقلبات الأسواق العالمية أو الأزمات الجيوسياسية.
