الرهان ضد الدولار يتحوّل إلى فخّ للمستثمرين... العملة الأميركية تستعيد بريقها رغم الإغلاقات والتقلبات

بعد أشهر من الرهانات المكثفة على تراجع الدولار في أسواق العملات العالمية، يجد المستثمرون أنفسهم اليوم في مواجهة واقع مغاير تمامًا. فالعملة الأميركية التي كانت محور عمليات بيع ضخمة منذ مطلع العام عادت لتسجّل مستويات مرتفعة، مدفوعة بتباطؤ الاقتصادات المنافسة وعودة الحذر في السياسة النقدية الأميركية. ومع هذا التحوّل، بدأت الخسائر تتراكم على صنّاع المراهنات الكبرى، بينما تتغيّر ملامح المشهد المالي العالمي مجددًا.
في التفاصيل، شهد الدولار الأميركي تحولًا لافتًا في مساره داخل سوق العملات الأجنبية البالغة قيمتها نحو 9.6 تريليونات دولار يوميًا. فبعدما شكّلت المراهنة على تراجعه الاتجاه السائد بين الصناديق الاستثمارية والمضاربين خلال النصف الأول من العام، بدأت العملة الأميركية تستعيد قوتها، لتسجّل أعلى مستوى لها في شهرين رغم استمرار الإغلاق الجزئي للحكومة الأميركية.
ويشير متعاملون في آسيا وأوروبا إلى أن صناديق التحوّط بدأت في تعزيز رهاناتها الصعودية عبر عقود الخيارات، متوقعةً استمرار ارتفاع الدولار أمام معظم العملات الرئيسية حتى نهاية العام.
محركات التحوّل ومواقف البنوك الكبرى
أبرز العوامل التي غيّرت مسار السوق جاءت من الخارج، بحسب بلومبيرغ. فاليورو والين الياباني شهدا هبوطًا حادًا هذا الشهر، مدفوعين بأزمات سياسية واقتصادية متراكمة. في فرنسا، ما تزال حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون تواجه أزمة سياسية عميقة تضغط على العملة الأوروبية، فيما يسود القلق في اليابان بعد صعود سناء تاكايتشي إلى زعامة الحزب الحاكم، وسط مخاوف من سياساتها التضخمية والإنفاق المعتمد على الديون.
هذا التباين جعل الدولار "القميص الأقل اتساخًا في مغسلة الاقتصاد العالمي"، وفقًا لما نقلت بلومبيرغ عن أندرو برينر، نائب رئيس شركة Natalliance Securities، في إشارة إلى أنه الأفضل نسبيًا بين العملات الكبرى رغم تحدياته الداخلية.
ويضغط استمرار قوة الدولار على المؤسسات المالية التي تبنّت مراكز بيعية منذ أشهر، وبينها غولدمان ساكس وجي بي مورغان ومورغان ستانلي. ومع تصاعد الخسائر، بدأت بعض الأصوات داخل الأسواق في تعديل مواقفها. فمدير المحافظ في شركة كولومبيا ثريدنيدل، إد الحسين، الذي كان من أبرز المتشائمين تجاه الدولار، أعلن تقليص انكشافه على الأسواق الناشئة، مشيرًا إلى أن الأسواق بالغت في تسعير خفض الفائدة الأميركية، رغم متانة الاقتصاد الأميركي واستمرار قوة سوق العمل.
الدولار ورهانات الفيدرالي ومفارقة السياسة النقدية
هذا وتُظهر بيانات لجنة تداول العقود الآجلة للسلع (CFTC) أن مديري الأصول وصناديق التحوّط لا يزالون يحتفظون بمراكز بيعية على الدولار حتى أواخر سبتمبر، وإن كانت أقل من ذروتها منتصف العام. لكن استمرار الارتفاع الحالي قد يضاعف خسائر هؤلاء، خاصة في ظل بوادر تأجيل دورة خفض الفائدة التي يترقبها المستثمرون.
وتتوقع الأسواق خفضين بواقع ربع نقطة مئوية بحلول نهاية العام، لكن محاضر اجتماع سبتمبر للفيدرالي وتصريحات أعضائه الأخيرة توحي بأن المسار غير مضمون. فبينما يظهر تباطؤ تدريجي في سوق العمل، لا تزال التضخمات الأميركية عنيدة، ما يجعل البنك المركزي أكثر حذرًا.
ولا تقتصر قوة الدولار على الأسواق المالية فحسب، بل تمتد آثارها إلى الاقتصاد العالمي ككل، إذ تصعّب على البنوك المركزية الأخرى مهمة تخفيف سياساتها النقدية، وترفع كلفة السلع المقوّمة بالدولار مثل النفط والمعادن، كما تزيد عبء الديون المقومة بالعملة الأميركية على الاقتصادات الناشئة. وفي حال استمرار الصعود، فقد تتعرض أسواق الأسهم والسندات في الدول النامية لضغوط، بينما تتراجع جاذبية صادرات الشركات الأميركية بسبب ارتفاع قيمة العملة.
ورغم حالة الغموض التي تكتنف مسار الدولار في الربع الأخير من العام، يرى محللون أن أي مفاجأة في بيانات التضخم أو مؤشرات التوظيف التي تأخر نشرها بسبب الإغلاق الحكومي قد تعيد الزخم مجددًا لموجة البيع. لكن إلى أن تظهر مؤشرات واضحة على ضعف الاقتصاد الأميركي، يبدو أن «الرّهان ضد الدولار» تحوّل إلى صفقة مؤلمة لكل من تبنّاها.